جمرة من النار

TT

لم يكن القذافي يمزح عندما هدد في خطابه الأخير من فوق سور في وسط العاصمة طرابلس بتحويل ليبيا إلى جمرة من النار ردا على الثورة الشعبية، فهذا ما يحصل على الأرض حاليا، والشواهد تدل على أن رحيله لن يكون سهلا أو قبل أن يريق نهرا من الدماء.

لقد تبنى القذافي خطابا شعاراته ثورية لتحرير العالم كله على مدار الـ40 عاما الماضية، وابتدع نظاما جماهيريا ولجانا شعبية بدعوى حكم الشعب نفسه، ليكتشف أن الشعب وجد هذه الشعارات خاوية وليست أكثر من غطاء لنظام شديد الاستبدادية، مسموح فيه بالتظاهر من أجل تحرير بلاد الواق واق، لكن ليس مسموحا بمجرد الهمس من أجل فتح باب الحريات الداخلية، أو تحسين مستويات المعيشة في بلد نفطي غني.

وفي مواجهة الثورة الليبية الحالية تبنى ما تبقى من النظام لهجة تهديدية تجاه الناس، فإما أنا أو الحرب الأهلية وتسليح القبائل وتقسيم البلاد ونهاية ليبيا نفسها، بعبارة أخرى شخص مقابل شعب، أما المظاهرات المؤيدة فيصعب تصديق عفويتها، وهذا ما لاحظه حتى الصحافيون الأجانب الذين سمح لهم بالقدوم في محاولة لتحسين الصورة أمام العالم الخارجي.

هناك شيء محير في ظاهرة هؤلاء الزعماء الذين يتمسكون بالكرسي بأي ثمن حتى لو كان خراب بلدهم وقتل الآلاف من شعبهم، المحير هو ألا يفكر أي منهم في سيرته التي سيدخل بها التاريخ، والمفترض أن هذا شيء طبيعي من هموم أي شخص يتولى زعامة دولة.

لنفترض أن مؤرخا أو باحثا جاء بعد 50 أو مائة عام وأراد التأريخ والبحث عن فترة حكم القذافي، ماذا سيقول؟ الزعيم الذي أحدث نهضة في بلاده ورفع شأنها، أم الزعيم الذي تشبه بنيرون وأحرق بلاده أو تسبب في دمار كبير فيها؟ والأحداث تجيب عن السؤال.

أسئلة أخرى تطرح نفسها: هل يعيش هذا الطراز من الزعماء في قوقعة أو عالم خاص بهم يجعلهم يتصورون أشياء ويتوهمون أنه بدونهم سيتوقف التاريخ وستموت الأشجار وتتوقف الرياح وتجف البحار، ولماذا لا يرجعون إلى التاريخ ليجدوا أن البلاد تبقى والأشخاص زائلون، وقد مر قبلهم عشرات، إن لم يكن مئات، وما يتبقى للأجيال المستقبلية هو سيرتهم سواء كانت عطرة أم سيئة.

الأرجح أنها القوقعة، وهي لم تأت في يوم أو ليلة، لكنها نتاج عقود من السياسات والظروف خلقت على مدار السنوات ووصلت إلى درجة تجعله لا يرى فيها الستارة تغلق عليه وهو لا يزال على خشبة المسرح يحاول التمثيل، والجمهور خرج من المسرح وأخذ يهتف من الخارج مطالبا باسترجاع نقوده التي دفعها.

وهي قوقعة بنيت حول الزعيم من قبل النظام والمستفيدين منه داخليا وخارجيا، فلم تكن ليبيا لتصل إلى هذه النقطة الحرجة لو أن أحدا من المحيطين بالزعيم، تساءل عن جدوى إنفاق كل هذه الأموال في الخارج على طموحات بمد الزعامة أو على مشروعات وهمية وخيالية بدلا من إنفاقها داخليا على التنمية والتحديث. فليبيا لا تقل ثروة عن منطقة دول الخليج النفطية بينما مستوى المعيشة ودخل الفرد فيها أقل بكثير، أو لو كانت هناك إمكانية طرح تساؤلات عن جدوى إهدار الوقت في كتاب أخضر ولجان وجماهيرية إلى آخر المصطلحات بينما الناس والعالم كله يعرف أين مفاتيح السلطة الحقيقية، أو لو تصدت هذه اللجان الشعبية المفترض أنها تمثل الشعب، كما يدعي النظام، وقالت إن الشعب يتململ ويتابع كيف يعيش بقية العالم، ويريد حريات.