النبات الشرير

TT

قلما تخلو فترة واحدة من فترات التاريخ من وجود فرد أو أفراد ينكب الجنس البشري بمقدمهم، يستطيع أو يستطيعون لنزواتهم وتوترهم وتوحش طباعهم - وأحيانا لجنونهم - أن يعرّضوا مجتمعهم وأمتهم بل والعالم بأجمعه لمصير وبيل، ليس لأنهم الأذكى أو الأقوى أو الأفضل أو الأمنع، بل لأنهم الأقدر على التحرر من كل ما يرعاه البشر من اعتبارات. وقيام الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما حدث فيهما، من أقرب وأقوى الشواهد على ذلك، ومن المحزن أن ذلك المشهد يتكرر في طبيعته وبواعثه وإن اختلف في شدته ومساحته، ولعل ما يحدث في ليبيا هذه الأيام شظايا مدمرة من الانفجار الكبير. هذه الأحداث لا بد أن تحاصر وتلح على ضمير ومشاعر كل فرد لا يستطيع أن يكف نفسه عن التألم للإنسان أو أن يفصل نفسه عن هموم الإنسان، لقد مثـّل «الأخ القائد» هذا المشهد لمدة طويلة كما استطاع أن يلخصه ويشخصه في خطابه - الفريد في وقاره وحكمته - الذي ألقاه مساء اليوم التاسع عشر من ربيع الأول الواحد والعشرين من شهر فبراير (شباط) 2011، ومن ميزات الرجل أنه يظهر ما يخفيه أمثاله ويعلن ما يكتمونه من مواهب تحسدهم عليها الوحوش المفترسة في غاباتها.

«الأخ القائد» لا يرى حرجا أو يشعر بغضاضة في أن يقوم أو يهدد بالقضاء على مواطنيه أو الغالبية منهم، أي القضاء على «جرذان»، لأنه يرى ذلك أمرا مشروعا وسائغا لاستبقاء سلطته التي ليس من مفرداتها الحكمة والاتزان وحساب الاحتمالات، لأن ذات هذا النوع من البشر تتضخم في نظرهم حتى تسد عليهم الجهات الست فلا يرون إلا ذواتهم ولا يكون الوطن والأمة إلا الوقود المطلوب والمفترض الذي يصنعون منه وبه مصافحاتهم وضرباتهم وسكونهم وقفزاتهم، ولذلك ليس غريبا أن «الأخ القائد» لم يكتف بتوجيه خطابه للشعب الليبي وحده بل وجهه إلى العالم بجميع قاراته، ولم يجد ما يمنعه من القول إنه أخضع هذا العالم وانتصر عليه، وإن هذا العالم الخاضع المقهور ينظر إلى انتصاراته وإنجازاته بانبهار وافتخار، فـ «الأخ القائد» لا تجيء أقواله وأفعاله - ولا ينتظر أن تجيء - محسوبة أو مفهومة في دوافعها أو ظروفها أو توقيتها لأن من الصفات التي تتميز بها هذه الذوات المفارقة الحادة بين اللسان والوجدان، بين ما تظهر وما تبطن، هذه المفارقة هي السمة التي لا تفارق هذه الذوات لأنها الهواء الذي تتنفسه، فالصدق والحرية والأحرار والكرامة والعدل وما إلى ذلك من المفردات تبقى معشوقة مرموقة في أحاديث هذه الذوات وخطاباتهم الضاجة، على أن كل هذه المعاني تبقى بعيدة بل ومقتولة في نياتهم وممارساتهم. إنهم يتحدثون عن الصدق ويعاقبون عليه، ويدعون إلى الحرية ويقتلون أو يسجنون الأحرار، ويرفعون شعار الكرامة ويعاقبون من يطالب بها، إنهم لا يرون إلا ذاتا مفردة يجب أن تكون أخطاؤها إصابة الأقدار مهما كانت فداحة هذه الأخطاء أو بشاعتها، وأن تكون إرادتها قدرا من الأقدار لا تجوز مقاومتها ومعارضتها، إنها تجهل الحساب وليس مما يدخل في معارفها فهم المعادلات فضلا عن وضعها أو حلها، ونظريات الاحتمال ليست شيئا مما يدخل في دائرة ما تتعامل به بل ولا ما تسمع عنه فضلا عن أن تكون مما تفهمه ملكة الإدراك لديها، لقد جسد ولخص «الأخ القائد» كل هذه المعاني عندما قال في خطابه الفريد في حياء يفيض بالتواضع النبيل إنه هو المجد وإنه الباني لوطنه ومدن هذا الوطن طوبة طوبة، الزعيم الملهم لم يدرك ولن يدرك أن خطابه أقوى تحريض عليه لمعارضيه ومقاومي سلطته على الالتزام بموقفهم وعدم الرجوع عنه، لقد سد عليهم كل طريق للخروج منه أو الرجوع عنه، حيث لم يترك لهم من خيار سوى الرفض المؤذن بانكشاف الليل أو القتل صبرا بسيوف «الأخ القائد».

عندما دعا كل فئات مجتمعه من النساء والرجال والشيوخ والشباب بل والأطفال، فإنه لم يدع من يحب دينه أو وطنه أو من يحرص على كرامته، بل دعا كل من يحب «القذافي»، لقد دعاهم أن يهبوا من مضاجعهم ويخرجوا من منازلهم لمطاردة وقتل تلك «الجرذان القذرة» التي كفرت بكرامات «الأخ القائد» وأنكرت كل هباته وسجاياه.

إن مقارنة بسيطة بين الحالتين التي عليها بلدان متقاربان - إن لم يكونا متطابقين - في أهم عاملين صانعين حالة ومستوى الشعوب من حيث الغنى والفقر والحرية والقهر والرضا والسخط، تظهر الفارق الهائل بينهما؛ هذان البلدان هما ليبيا والكويت، فالبلدان متساويان أو متقاربان من حيث المصدر الرئيس لدخل البلدين، والبلدان متقاربان من حيث عدد السكان إذا حسب المستقدمون، وتنفرد وتتميز ليبيا بمميزات ليست موجودة في الكويت هي الملاءمة للزراعة وللجذب السياحي لموقعها على المتوسط واعتدال مناخها، ومع كل ذلك فكم تبدو المفارقة حادة الدلالة على ما وهبه «الأخ القائد» ولما وهب شعبه به من نعم الحياة، إذ قسم القائد الملهم شعبه إلى ثلاثة أقسام، أحدها مشرد خارج بلده، وثانيها داخل سجون حديدية الأبواب، وثالثها داخل سجن كبير اسمه ليبيا في عهده السعيد، وكأنه جاء ليقول إن ليبيا قد أنتجت المتناقضين الشهيد عمر المختار عليه رحمة الله والزعيم معمر القذافي عامله الله بما يستحق، أما الصورة الأخرى في البلد الآخر وهو الكويت فيمثلها ما عليه المجتمع ومن يحكمه من ألفة وما يتمتع به أفراد المجتمع من حرية القول والعمل وأنهم صانعون أو مشاركون في صناعة وصياغة سياسة وحاضر ومستقبل وطنهم ومجتمعهم وذلك الموقف الفريد الرائع الذي وقفه كل أفراد المجتمع عندما دهمهم الطوفان باجتياح قوات طاغية آخر مشابه لـ «الأخ القائد» في إقدامه على البطش وليس في الصفات الأخرى التي يتمتع بها صدام مما يحمد أو يذم، إن هذا «الطاغية» لم يجد من المجتمع الكويتي فردا واحدا يرضى أن يتعامل معه فضلا عن أن يرحب به، لقد وقفوا جميعهم موقف رجل واحد مناصرة للحكم الذي تعاون معهم في البأساء ولم ينفرد عنهم بالنعماء، والفرد الدمية الذي نصبه جند صدام على الكويت اختفى بسرعة مذهلة اختفاء مادة ذائبة وضعت في سائل مذيب.

هل جاء هؤلاء الأفراد ممن يعاقب بهم البشر كما جاءوا بقدر لا يد لهم فيه، أي إنهم جاءوا نتيجة للخريطة الجينية التي لا يدلهم في صنعها أو رسمها وإن الجينات المكونة لهذه الصفات موجودة في ذواتهم بـ «الفعل» وإنها ستظهر وتسيطر مهما كانت الظروف والبيئة أو أي عوامل أخرى مساعدة، أم أنها كانت موجودة بـ «القوة» لا يخرجها إلى وجود بـ «الفعل» إلا البيئة والظروف وعوامل أخرى مساعدة، فيكون ظهورها واختفاؤها مرهونا بهذه العوامل، أليس معرفة ذلك سيكون من أهم وأنفع ما يكشف عنه علم الوراثة للقضاء على هذا الوباء أو معالجته.

الطريقة التي وصل بها ومنها «الأخ القائد» وأمثاله، وهي المدفع والدبابة، تجعل همّ وهاجس ذلك الفرد وما يتوقعه ويخشاه دبابة أخرى تصل إليه كما وصل، أو مدفعا يطلق عليه كما أطلق، إنه يخاف فيظلم، ثم يظلم فيخاف، ثم يخاف فيظلم، وهكذا يستمر هذا التسلسل الشرير الذي لم يعرف التفاعل المتسلسل النووي مثل فداحته وتدميره وإسلامه لسوء المصير، لذلك وبذلك تكون مصالح الشعب ومطامحه وتطلعاته العليا محكومة بمدى قربها أو بعدها من ذلك الهاجس الرئيس المسيطر وهو حماية وضمان ما وصل إليه من سلطان لا بمطامح وتطلعات مجتمعه إلى التقدم والعدالة والحرية وكرامة الإنسان.

* كاتب سعودي