نعم.. تونس غير!

TT

عادة الثورات في العالم العربي تأتي بعكس الشعارات التي تنادي بها.

إذا كان البعض يرى في هذه الجملة تعميما ظالما وغير علمي، فإنه بالمقابل تعتبر المقولة التي تتفشى هذه الأيام بصيغ مختلفة: «بزغ فجر جديد للشعوب العربية وانتهى عهد الفساد والجهل والاستبداد والتعصب الديني والفئوي». أيضا مقولة تعميمية وغير علمية وأقرب للانطباع والرغبات منها إلى قراءة الحال كما هو.

تقرأ الآن من يتحدث عن نموذج «ثورة» مصر أو تونس أو ليبيا، وأنه موديل ثوري جديد سيمر بكل البلاد العربية، وأحيانا بنفس التفاصيل الثورية، وتحول الأمر عند البعض إلى ما يشبه برامج ومسابقات تلفزيون الواقع، وأصبح السؤال الذي يطرح حتى في بعض المنابر الجادة هو: ما هو البلد التالي؟!

تجد من يتحدث عن تطابق التفاصيل بين بلد وبلد وبالتالي تطابق النموذج التونسي مع كل بلد آخر، ومن يختلف أو ينبه إلى حقيقة بديهية في أنه لا يوجد شيء يشبه شيئا تماما، يغضب الغاضبون من أنصار الجماهير.

مفهوم هذا السلوك الانفعالي في جو انقلابي ثوري، الكل يريد أن يثور، حتى تحول الأمر إلى سلوك عام، يستخدم أحيانا بشكل فولكلوري، كما حصل في مظاهرات «الفئات» في مصر، وهم المنتمون إلى مهنة أو شركة أو مؤسسة معينة لديهم مظلمة معينة، أو حتى ليست مظلمة بل مجرد رغبة «خام» في زيادة راتب أو الحصول على مزايا، تحولت هذه المظاهرات الفئوية إلى صداع مزمن في مصر، وشكا الجيش منها مر الشكوى، وتنبه أنصار ميدان التحرير من مثقفين وغيرهم، إلى خطورة هذه المظاهرات وأثرها السيئ على الصورة «المنضبطة» لشبان ميدان التحرير، فقال بعضهم في دفاع محلي تقليدي: إنها مظاهرات مدبرة من أنصار النظام الأخفياء.

الأرجح أنها ليست مؤامرة، بل سلوك ينتمي إلى العادة والعدوى التي تنتشر بسرعة في المجتمعات في لحظات معينة، سلوك من قبيل تجريب شيء حقق نتائج لدى آخرين فلم لا يحقق نتائج معنا؟! وكما نرى هي فكرة بسيطة ومباشرة، نفع هذا الأمر مع غيري فلم لا ينفع معي؟! أنصار ميدان التحرير يرفضون أن تتم المماهاة بين مظاهراتهم واعتصامهم وبين مظاهرات الفئات العادية في مصر، بدعوى أن ثمة فرقا كبيرا بين ثورتهم وعصيانهم وبين ما يفعله أبناء الفئات، وهو رفض متوقع، إلا أنه يثير نفس السؤال لدى من يتبنى أنصار ميدان التحرير في العالم العربي من كتاب وصحافيين وساسة ودعاة وغيرهم: إلى أي مدى مكن استخدام هذا الحق في التفريق والتمييز أيضا بين قصة مصر وغيرها من البلدان العربية؟!

البعض، خصوصا من «الثوار الجدد»، يرفض بشراسة أن يقال بأن تونس غير مصر ومصر غير ليبيا، ويدللون على ذلك بأن هذا الكلام لم ينفع وزير الخارجية المصري، أبو الغيط، الذي تحدث مبكرا عن الفرق بين مصر وتونس، وأيضا سيف الإسلام القذافي الذي تحدث عن الفرق بين ليبيا من جهة ومصر وتونس من جهة أخرى، أو كلام الرئيس اليمني، أو حتى كلام البعض في دول الخليج العربي، عن أن لكل بلاد مشكلاتها الخاصة.

حسنا، ورغم وجود أجزاء من الصورة في تونس ومصر وليبيا، وربما اليمن، يشبه بعضها بعضا، خصوصا جانب ومشهد الانتفاض الجماهيري الداخلي المدعوم خارجيا وإعلاميا، للإطاحة بالنظام الحاكم، فإن هذا لا يعني أن بقية أجزاء الصورة تتشابه أيضا، هذا مستحيل أصلا، فإذا كان لا يوجد إنسان فرد يشبه إنسانا آخر تماما دون فرق، حتى التوأم، فما بالك بمجتمعات كاملة تملك تنوعها الخاص، كما تملك ذاكرتها الوطنية العامة، التي تنطوي هي أيضا، أعني الذاكرة العامة، على خصوصية داخلية، وتجارب مميزة لكل مجتمع أفرزت في مجملها هوية مشتركة، هذا أمر يدركه كل إنسان يفكر بشكل هادئ دون ضغط اللحظة.

فروق أخرى حتى في طبيعة الثورة القائمة، تحديدا حول ما جرى في تونس ومصر وليبيا في سيناريو إسقاط النظام (ليبيا لم يسقط بعد) حيث يعدّ ما جرى دليلا واضحا على عدم التطابق، وعلى وجود الاختلافات، فابن علي رحل فورا من تونس؛ حينما وصلت الاحتجاجات إلى العاصمة، وقد خذله الجيش، بينما ظل رئيس مصر، مبارك، يناور ويحاول نحو ثلاثة أسابيع وقدم تنازلات مقسطة، ولم يتخلى عنه الجيش إلا في آخر لحظة، وحتى الجيش ودعه بخطاب احتفائي تغنى بدور مبارك في خدمة مصر، ثم لم يهرب الرئيس المصري إلى خارج البلاد بل ذهب إلى مدينة شرم الشيخ المصرية، أما في ليبيا فبدا الأمر مختلفا تماما، العقيد القذافي يصر على «تأديب» المنحرفين، ويستخدم لغة التهديد والوعيد بل والشتم، ورجاله على الأرض يطلقون النار أو يهتفون باسمه، ويتعهد بالقتال إلى آخر قطرة من دمه، وهذا سيناريو مخالف تماما لسيناريو الهروب التونسي السريع أو التنحي المصري المسالم، فنحن هنا أمام سيناريو المنازلة الليبية إلى آخر قطرة دم.

هذه الاختلافات، فقط في سيناريو الخروج، كافية لرؤية طبيعة الفروق بين القصص الثلاث، فضلا عن اختلافات بين هذه المجتمعات وكلها متجاورة بالحدود، لكن المجتمع المصري، يختلف تماما عن المجتمع الليبي، والأخير يختلف قطعا عن التونسي، التجارب التاريخية أيضا مختلفة، والمطالب الحالية، إذا ما غادرنا الشعارات العامة.

ما دامت الاختلافات في سلوك هذه الأنظمة المتجاورة تجاه الاعتراض والانتفاض بهذا التنوع والتمايز، وكذلك طبائع الشعوب، وحالها، فكيف يكون الأمر في الدول الأبعد مكانا والأكثر اختلافا في الذاكرة والطبيعة والتكوين والمطالب؟!

يبقى التذكير بأمر: لا يعني التفريق الضروري بين كل حالة وحالة، أنه لا توجد مشكلات بل وأزمات عميقة في كل مكان أو دولة عربية، ولكنه يعني أن لكل بلد مشكلاته الخاصة، وعليه فكل مشكلة حلها مختلف، لسنا أمام مصنع ينتح نفس المنتج، ببساطة لأننا لسنا آلات متشابهة، بل بشر نختلف كثيرا ونتفق قليلا.

أمر آخر، رغم الفرح الذي يتملك إنسان هذه المنطقة بإمكانية وجود مجتمعات عربية تحافظ على قيمة الحرية وتحرير العقول من قيد الخرافة والعنجهيات القديمة، وتخلق مجتمعا إنسانيا حديثا لا مكان فيه لنزعات القهر الأصولي أو الاستبداد السياسي، وهذا حلم الأحلام لكل إنسان سوي، فإن هذه الأحلام لا يجوز أن تجعل المرء يغفل حقيقة الحال، وحقيقة الحال أنه من الصعب التصديق بأن 18 يوما، هي عمر الاحتجاجات المصرية للإطاحة بنظام مبارك، كافية لتغيير كل شيء وخلق شعب وثقافة جديدة سواء في العلاقة بالدين أو بالآخر أو مفهوم المواطنة أو حق الحرية الفردية في كل شيء، أو حال المرأة العربية، والبحث النقدي في التاريخ والمجتمع والدين والسياسة، وكما قال بعض فلاسفة السياسة: لا حرية من دون أحرار، والحرية هنا لا تعني فقط حرية نقد السياسي أو الإطاحة بالحاكم، بل تعني أيضا بالإضافة إلى هذا، وبشكل أعمق، الحرية في نقد كل شيء.. ومراجعة شاملة لعقلنا وثقافتنا وتاريخنا بلا توقف، وحماية الحرية الفردية، ليس من السياسي فقط، بل من سلطات المجتمع القاهرة، فهل هذا الحق متاح في مصر أو في غير مصر، أو حتى سيتاح مستقبلا؟!

ما سلف ليس سباحة عكس التيار، بل محاولة للتعرف على هذا التيار نفسه، دون زيادة ونقصان، وتبقى محاولة الفهم مفتوحة باستمرار، المهم أن نبقى مصرّين على حقنا في فهم الجماهير وليس التصفيق لها فقط..

[email protected]