نهاية الاستثناء العربي!

TT

المشهد العربي الراهن يكاد يكون مشهدا للعالم أجمع من ناحية؛ ومشهدا خاصا للدول العربية من ناحية أخرى. وببساطة فإن ما يجري في عواصم متعددة عربية هو نهاية «الاستثناء العربي»، وهو نظرية قال بها العرب وغير العرب أيضا؛ أن العالم العربي له من الخصوصية والاستثناء والطبيعة التي ليس كمثلها أحد، تجعله بعيدا عن «الثورة الديمقراطية» في العالم. لم يكن مهما ما جرى في أوروبا الشرقية، ولا واردا ما حدث في العديد من الدول الآسيوية، ولا لفت نظر أحد ما حدث في معظم دول أميركا الجنوبية التي عششت فيها الديكتاتورية والانقلابات العسكرية لعقود بعد عقود، وحتى أفريقيا ورغم المجاعات والمذابح ظهرت جنوب أفريقيا وبجانبها عدد من الدول، حيث النموذج الديمقراطي يسود الجميع.

وحدهم كانوا العرب هم الاستثناء من القاعدة، وكان ذلك لأن الإسلام يوصي بطاعة ولي الأمر، أو أن الثقافة السياسية والدولة الفرعونية التاريخية لها سماتها التي تبقي فرعونا من نوع أو آخر على رأس السلطة السياسية، أو أن العسكر أو من ناصروهم كان وجودهم ضروريا في بلاد اعتادت على العصيان وتمزقها طوائف وجماعات تتأهب دوما للحرب الأهلية والصراع الدائم. هذه بلاد حتى استعصت على عمليات زرع للديمقراطية جرت في بلدان أخرى عندما جاءتها قوات احتلال من بلاد ديمقراطية وليبرالية.

ولكن الاستثناء العربي انتهى ببساطة لأن الثورة الديمقراطية وصلت إليها؛ وليس الأمر موجودا الآن في تونس ومصر وإنما لحقتها ليبيا وتسارعت الخطوات التي تتخذها بلدان كثيرة توزع الثروة الاقتصادية بكرم بالغ، وتبدي استعدادها للتخلي عن السلطة حينما يحين الأوان. الكل تلقى الرسالة وحاول أن يحني رأسه للعاصفة التي باتت محملة بأتربة ودوامات وهواجس وشكوك لا تنتهي.

المسألة ببساطة هي أن الاستثناء العربي انتهى لأن الدول العربية جميعها سعت بأشكال مختلفة للتوسع في التعليم، والتحول إلى الاقتصاد الخاص، وزيادة الحضر على حساب الريف أو البادية حسب هذه الدولة أو تلك، وظهرت محاولات للتصنيع بأشكال مختلفة. وبشكل ما ظهرت الطبقة الوسطى ونمت وحتى ترعرعت في بعض البلدان، ولم تكن هذه الطبقة ساكنة، حيث أحيتها الثورة الإعلامية الكبرى باللغة العربية التي بات ينطق بها 700 محطة فضائية كلها كانت بأشكال مختلفة تنزع الشرعية عن الدولة القائمة. ولم يكن الإعلام تلفزيونيا فقط بل كان على الفضاء الإلكتروني وحتى عبر المداد الصحافي المطبوع. وبشكل ما فإن القدرة على التنظيم أخذت في التزايد عبر مؤسسات مختلفة للمجتمع المدني؛ حقوقية واجتماعية، تكفي وزيادة لتحريك جماعات وأحيانا جموع. ولم تكن هناك صدفة أن الدول الغربية كلها لم تتوقف قط عن دعم هذا المجتمع المدني واختارت من داخله أصحاب القدرات القيادية الذين حصلوا على برامج للتدريب والتعرف على ما جرى من ثورات في أوروبا الشرقية والعديد من دول العالم الأخرى حتى بات هناك «كتب تعليمية» لكيفية القيام بالثورة والتغيير ليس فقط من الناحية الاستراتيجية وإنما التكتيكية كذلك. وقد لفت نظري المثقف المصري سيد ياسين إلى كتاب جين شارب الصادر عن مؤسسة «ألبرت أينشتين» الأميركية «من الديكتاتورية إلى الديمقراطية: إطار تصوري للتحرر» والذي صدرت طبعته الأولى عام 2002 باعتباره دليلا لحركات التغيير الثورية في العالم.

كل ذلك جرى في الدول العربية جميعا وبأشكال مختلفة، وكانت حركة انتقال رؤوس الأموال وهجرة العمالة العربية خالقة لأشكال مختلفة من الحراك الاجتماعي والسياسي. الإشكالية كانت أنه في كل الدول العربية تقريبا بينما كان يجري كل ذلك كانت الأطر السياسية عاجزة عن استيعاب ما جرى، وما تم بناؤه بواسطة الدولة العربية ذاتها. لقد تغيرت المجتمعات والاقتصاد والعالم، ولكن بقيت النظم السياسية على حالها ضيقة لنخب محدودة، وضيقة الأفق لكي تدرك ما جرى، ومن ثم كانت متأخرة دوما في التعامل مع الانفجارات الكبرى التي تجري في مجتمعاتها.

إن ما جرى في الدول العربية لم يكن ثورة للفقراء بل كان ثورة الطبقة الوسطى، ولم يكن ثورة ضد الفساد لأن ذات الطبقة الوسطى ليست بريئة من الممارسات الفاسدة، وإنما الثورة في جوهرها تطالب بالمشاركة السياسية في صميم وقلب السلطة أو الاستيلاء عليها مباشرة.

وحتى كتابة هذا المقال فإن الدول العربية التي لم تصلها الشرارة الثورية بعد ذهبت إلى الحل الاقتصادي، محاولة وضع حلول عاجلة لقضية البطالة، ومحاولة كبح جماح التضخم، وتوزيع المزيد من المنح والمزايا، وإعطاء دفعات للبنية الأساسية بحيث تصير حياة الناس أكثر سهولة، وأخيرا جعل جهاز الحكومة أكثر نعومة ولطفا مع المواطنين. كل ذلك يمثل خطوات مهمة، ولكنها ليست وحدها الطريق إلى تجنب الثورة وتبعاتها لأن المطلب الأساسي لجماهير الطبقة الوسطى له طبيعة سياسية تدخل في نطاق المشاركة السياسية والمساهمة في السلطة السياسية.

ما تطلبه الجماهير إذن بالإضافة إلى الحياة الجيدة، وتسهيل الأعمال وكافة المطالب الاقتصادية والاجتماعية المعروفة عملية دءوبة لبناء المؤسسات السياسية التي تنقل البلدان العربية إلى مشارف القرن العشرين، وهذه تبدأ من المواثيق والدساتير المناسبة، وحتى الانتخابات النظيفة، وقبل ذلك وبعده تطبيق قاعدة المواطنة بحذافيرها، حيث لا يوجد تمييز على أساس طائفي أو ديني أو عرقي من أي نوع.

إن العالم العربي كله يرتج من أقصاه إلى أقصاه، وفي داخل الطبقات الاجتماعية المختلفة، حتى لو كانت الطبقة الوسطى هي التي تقود عملية التغيير، ولكن التجربة تثبت أنه ما إن تنزل الجماهير المنظمة بقوة التكنولوجيا إلى الشارع حتى تجد من يساندها من طبقات وشرائح اجتماعية مختلفة. كان ذلك هو ما جرى في تونس ومصر، وكانت له علاماته وشواهده في ليبيا والبحرين واليمن والأردن وفلسطين، كما كانت له بداياته في بلدان أخرى مثل عمان والكويت. وبشكل ما فإن مجتمعاتنا أصبحت فجأة وكأنها تسلطت عليها أضواء كاشفة فظهرت متخلفة بعيدة عن العصر وعاجزة عن اللحاق به؛ وكانت هذه الأضواء الكاشفة هي الجماعات والطلائع التي أنتجها المجتمع من خلال التنمية الاقتصادية والاتصال بالعالم، والثورة التكنولوجية المعاصرة.

بقي عنصر أخير نادرا ما يتم الانتباه له وهو أن العالم لم يترك منطقتنا أبدا لحالها، ورغم فشل تجربة جورج بوش في استخدام القوة الصلبة العسكرية فإن ذلك لم يمنع دولا أخرى من استخدام القوة الناعمة للمجتمع المدني وشبكاته العالمية التي تواصلت مع الشباب العربي طوال العقد الماضي وأخذت بيده إلى تجارب العالم الأخرى في أوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية حتى تعيد مجتمعاتنا بطريقة تتناسب مع الدنيا والعصر.