هل يعرف شباب الثورة معنى توازن القوى الإقليمي؟

TT

إذا كنت تعتقد أن ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط هو زلزال كبير، فإن القادم ربما سيكون أكثر إثارة مما يحدث الآن. في أقل من شهرين سقط نظامان عربيان، هما تونس ومصر، بينما النظام الليبي يصارع النهاية في أحياء العاصمة طرابلس. ليس هذا فحسب، فدول أخرى باتت تتأرجح بين يوم وآخر مثل اليمن، والجزائر، وحتى الدول الخليجية التي تتمتع بأحوال اقتصادية واجتماعية أفضل هي تحت الضغط الكبير. تأمل فقط في التحديين البحريني والعماني. باعتقادي أن دول الخليج، مع الأخذ بإصلاحات جادة، أكثر قدرة على تجاوز التحدي، مقارنة بالجمهوريات العربية التي تتعرض شرعيتها للتفتت تحت ضغط الجماهير الشبابية الغاضبة. لكن الارتدادات الحقيقية لهذا الزلزال لم تصب بعد أنظمة - كانت مرشحة أكثر من غيرها - مثل إيران، وسورية، وأنظمة المحاصصة الطائفية في العراق، ولبنان.

لا أحد يعرف بالضبط متى ستتوقف حمى «الانتفاضة الشبابية» التي تجتاح المنطقة بأسرها. بعض الأنظمة تتمنى لو يتأخر الدور عليها حتى يتبين لشبابها خطورة ما يحدث في تلك البلدان، وكيف أن المجهول أكثر خطورة مما يظن هؤلاء «الشباب» الذين لا يدركون معنى إدارة الدولة أمنيا، واقتصاديا. من الصعب حقيقة مناقشة الشباب المتحمسين للثورة، أو حتى الحوار معهم؛ لأن روح المرحلة تدعو للتغيير، لا سيما أنهم يرون نجاح نظرائهم في كل من تونس ومصر في إسقاط أنظمة قوية أمنيا وعسكريا وذات علاقات نافذة بالعالم الخارجي. مهما فعلت الأنظمة القائمة فهي لن تستطيع امتصاص هذه الطاقة الشبابية التي تسعى للتغيير. سيضرب الزلزال الجميع مهما بلغ حجم الإصلاحات والتغييرات، لكن كل ما يمكن أن تراهن عليه بعض الأنظمة الحكيمة هي أن تخرج بأقل قدر من الخسائر الممكنة. مشكلة بعض السياسيين أنهم لا يدركون خطورة الموجة «الثورية» الراهنة؛ فهم يفكرون بالطرق التقليدية ويقيمون الحسابات الواقعية لتقييم الأزمة، بينما الطرف الآخر - وهم الشباب الثائر - لا يكترثون بتلك الحسابات بقدر ما أنهم منغمسون باللحظة الثورية التي يزداد أوارها يوما بعد يوم.

شباب المرحلة الراهنة منخرطون بشكل كبير في الاعتقاد بحزمة من «المثاليات» فيما يتعلق بعالم السياسة، وفضاءات «الحرية» و«الديمقراطية»، وفي هذه اللحظة فإنهم لا يكادون يكترثون بالتعقيدات الاجتماعية، والآيديولوجية، والاقتصادية التي تشكل النسيج الاجتماعي والسياسي في بلدانهم. هناك اعتقاد «شبابي» بأنهم يمتلكون لحظة التغيير - التاريخية - وأنهم بوسعهم أن يغيروا بلدانهم، ووجه المنطقة كما نعرفه. في وسط هذا الجو «المثالي»، الغارق في التمنيات، والتطلعات المجاوزة لتعقيدات الواقع فإن كثيرا من المثقفين والكتاب قد انخرطوا في التأييد لما يحدث، بل ولمباركة «الثورة الشبابية» التي قامت بما عجزوا عن القيام به طوال العقود الأربعة الماضية. بعض هذا التأييد منبعه الحنين إلى الجذور الثورية لثقافة «اليسار» في الستينات، لكن البعض الآخر يشكلون شريحة المنتفعين الذين يريدون ركوب موجة التغيير لتحقيق المصالح الآيديولوجية والمادية، وتحقيق الحضور الذاتي في المرحلة الجديدة. تشاركهم في ذلك جملة من رموز التيار الإسلامي الذين كانوا يمثلون المعارضة الإسلامية في السبعينات والثمانينات، وقد انقلبوا نهاية التسعينات إلى خطاب متعايش مع الأنظمة العربية، بل ومنافق إلى حد كبير، ولعل العلاقات التي جمعت بين أولئك الدعاة والمشايخ وأبناء الأمراء والرؤساء لهي دلالة فاضحة على زيف موقف تلك الشخصيات. حاليا، كل من تعامل مع الأنظمة الجمهورية السابقة، التي هي على وشك السقوط، باتوا يسارعون إلى إعلان البراءة، والتعبير عن دعمهم وإعجابهم بالحالة الثورية «الشبابية» التي تعصف بالمنطقة.

لعل القلق الأكبر يتعلق بشكل الخارطة السياسية الإقليمية التي ستنتج بعد أن يأخذ زلزال الثورة مداه الأخير. ليس هناك أدنى شك في أن ما حدث سيغير موازين القوى الإقليمية، وقائمة التحالفات التقليدية التي نعرفها منذ حرب الخليج الثانية (1990 - 1991)، وستعتمد الخارطة الجديدة على نتائج العملية السياسية الانتقالية في تلك البلدان. هنا لا بد من التأكيد على أن كثيرا من الدول العربية التي أصابتها حمى الثورة ستمر بالضرورة بمرحلة «فوضى» وتقلبات داخلية يصعب التنبؤ بها، لكن ما يمكن التفكير به حاليا هو أننا قد نواجه أنظمة شعبوية منتخبة تعاني ضعفا اقتصاديا، وسوء إدارة نتيجة للتغير البيروقراطي الهائل الذي سيصيب مؤسسات تلك الدول الخدمية والاقتصادية. نتيجة لذلك، فإن تلك الدول ستقودها في الغالب حكومات ائتلافية ضعيفة، وغير قادرة على حسم الملفات الحساسة، والرئيسية؛ لهذا فإن من المستبعد أن تغامر الأنظمة الجديدة في نقض معاهداتها السياسية المهمة، مثل معاهدة السلام المصري – الإسرائيلي، لكن الاتفاقات الاقتصادية لن تتمتع بالقدر ذاته من الحصانة؛ لأن المسؤولين الجدد سيكون لديهم رغبة جارفة في إثبات توجههم الاقتصادي الإصلاحي المحارب لعقود واتفاقيات العهد الراحل (الفاسد). أما شكل ميزان القوى الإقليمي فسيكون هناك احتمال كبير أن يكون عرضة لاجتهادات سريعة ومستعجلة من هذا الجانب الطامح إلى الشعبية، أو ذاك. تأمل فقط موقف شباب الثورة المصرية من أحداث ليبيا وغيرها، واستجابة الجيش السريعة لتلك الدعوات. في ثورات كثيرة سابقة لجأ الثوار إلى تصدير مشكلاتهم السياسية والاقتصادية لاستدامة المشروعية الثورية، مثل ثورات أميركا اللاتينية في السنوات العشر الأخيرة في فنزويلا، وبوليفيا، وغيرهما، التي لم تتورع عن توثيق العلاقات مع نظم راديكالية مثل إيران وليبيا، على الرغم من انعدام الديمقراطية في تلك الدول.

كثيرون يسارعون إلى دحض فرضية التشابه بين الثورة الإيرانية التي قامت بانتفاضة إسلاموية يسارية في ذروة الحرب الباردة، وبين ما يحدث الآن في الشرق الأوسط. صحيح أننا حتى الآن لا نواجه شخصية طامحة ثورية مثل الخميني، لكن هذا لا يعني أن الساحة خالية من تلك الشخصيات أو الزعامات (الدينية) الطامحة إلى لعب هذا الدور. هناك دروس في الثورة الإيرانية ينبغي الانتباه إليها، لعل أبرزها الطابع «المثالي» الذي يميز ثورات الشباب. كان الخميني في أوائل الستينات يدرك أهمية قيم كالمقاومة والوقوف في وجه الدول الكبرى، والاعتزاز الوطني أمام القوى الإقليمية، ولهذا سعى إلى «أسلمة» الخطاب اليساري وإقحامه في أدبيات الحركة الإسلامية الشيعية، حين تمكن من قيادة الثورة أخذ بطريقة حماسية يبارك «المثالية الثورية» لجيل الشباب ضد نصائح شركاء الثورة الأقل راديكالية، وفي ظرف سنوات قليلة تمكن من إقصاء تلك النخب السياسية بالاستعانة بالروح الشبابية الثورية، لكن «المثالية الثورية» وقفت حائلا أمام شراء إيران للأسلحة من أنظمة اعتبرتها معادية؛ لهذا لجأ النظام إلى شراء الأسلحة سرا من خصومه، والتفاوض سرا مع أولئك الخصوم حتى لا يفقد دعم الشباب الثوري. النتيجة أن إيران خسرت 3 عقود بين الحرب والعزلة الدولية والصدام الداخلي تحت حمى «المثالية الثورية».

المنطقة مرشحة لحالة من الصدام الثوري - تحت أجندة الحرية والديمقراطية - لكن سيدرك كثير من المتحمسين للثورات أن الواقع السياسي أكثر تعقيدا من أن يتم الالتفاف عليه بالشعارات. في 1984، وبعد سنتين من رفض إيران عرض وقف إطلاق النار مع العراق، أدرك الخميني وكبار مساعديه أن البلد بات في عزلة دولية فوق ما يستطيع، وأن القدرات العسكرية والاقتصادية قد ضعفت لدرجة مقلقة. دعا الخميني كل السفراء الإيرانيين في الخارج، وقال لهم: علاقاتنا بالآخرين غيرة جيدة، وقد أصبحنا في عزلة، وما أريده منكم أن تعززوا التقارب مع الدول التي نملك معها علاقات، كل الدول التي لدينا تمثيل دبلوماسي بها.

خلاصة القول: إن تصاعد التوقعات المثالية قد يتحول إلى طوباوية رومانسية لواقع لا يمكن تحقيقه. لقد قام الشباب بإسقاط الأنظمة، ولكن هل لديهم الوعي لبناء دول ديمقراطية ناجحة اقتصاديا وإداريا؟ ذلك هو التحدي الكبير. ربما جاء الوقت الذي يجب أن يفكر فيه الشباب بالاستقرار الإقليمي؛ لأن الدول لا تعيش في عوالم مستقلة، هذا ما أخطأ في فهمه شباب الثورة الإيرانية.

-