التاريخ يُكتب

TT

استيقظت من النوم مبكرا صباح يوم الجمعة الموافق 28 يناير (كانون الثاني)، كعادتي منذ أكثر من أربعين عاما، إلا أنني كنت أشعر ساعتها وكأننا على مشارف حدث جلل سوف يهز أركان مصر، وأكد إحساسي هذا ما اتخذته من قرار بالأمس بإغلاق أبواب المتحف المصري يوم الجمعة وعدم فتحه للزيارة، بناء على نصائح الكثير من الجهات التي كانت تستشعر وصول ثورة شباب التحرير إلى ذروتها في ذلك اليوم، وكلنا يعرف أن المتحف المصري يقع في قلب الميدان وللأسف لا يفصله سوى سور الحزب الوطني المجاور له.

وما أكد إحساسي في ذلك اليوم بأننا على مشارف حدث جلل هو انقطاع جميع وسائل الاتصال عبر التليفون الجوال والإنترنت وذلك للمرة الأولى في مصر، واضطرني هذا إلى العودة إلى مفكرتي القديمة التي سجلت بها جميع أرقام تليفونات الأصدقاء وكذلك المناطق الأثرية والمتاحف، وبدأت في إجراء عدد من المكالمات عن طريق التليفون العادي أو الأرضي، كما نسميه هنا في مصر..

كان الجميع قد وصل إلى حالة مماثلة لما أشعر به وكانت العبارة الأكثر ترديدا في ذلك اليوم هي «ربنا يستر».

ومرت ساعات اليوم بطيئة متثاقلة.. وكانت خطبة الجمعة في المسجد المجاور لمنزلي عن «فضل نعمة الأمن والأمان على العباد والأوطان». وفي المساء كانت القنوات التلفزيونية تنقل نبض الشارع المصري المعلق بما يحدث في ميدان التحرير، وبدأت فصول الكابوس تتوالى كالآتي: عنف وإفراط في استخدام القوة ضد شباب يرفعون لافتات تحمل مطالبهم بالحرية والعدل والديمقراطية، يليها حالة من الفوضى العارمة واختفاء مدهش لجحافل الأمن المركزي قبل نزول الجيش المصري إلى الشارع، ثم حريق يشتعل في المبنى المجاور للمتحف المصري، ثم مخرج شاب يصرخ عبر الفضائيات: «أنقذوا المتحف المصري»..

كانت الأحداث تتوالى وحالة من الهلع تسيطر على كل كياني وأنا أرى أكبر متحف في العالم يضم آثار الفراعنة وتاريخهم وحضارتهم يتعرض للخطر، وفي هذه اللحظة لم أكن أدري أن هناك خطرا آخر يحدق بالمتحف المصري غير الحريق، واسمه خطر الاقتحام!

ارتديت ملابسي ونزلت إلى الشارع وأهلي يصرخون في بألا أغامر بحياتي في ظل هذه الفوضى، لكن أي حياة هذه التي أفكر فيها وأنا أرى حصاد جهد وعرق آلاف العلماء والأثريين من شتى أنحاء العالم في الكشف عن آثار مصر وإيداعها في مبنى عظيم كالمتحف المصري يضيع في ثوان ولا يجد من ينقذه أو يدافع عنه..

يا له من كابوس مخيف سيطر على عقلي وأوحى لي أن المتحف المصري يمكن أن يتحول إلى كتلة من رماد. وفي الشارع لم أجد وسيلة مواصلات ولم أجد مواطنا واحدا وكانت المنطقة كلها يخيم عليها سكون مخيف وكأن البلد كلها اختزلت في كلمتين اثنتين فقط: «ميدان التحرير»!

عدت إلى منزلي غير مصدق ما يحدث وكان عقلي لا يفكر سوى في شيء واحد وهو المتحف المصري، اتصلت بجميع تليفونات هيئات الحماية والإطفاء بالتوجه إلى المتحف المصري وكنت أتوسل إلى ليل هذه الجمعة أن ينجلي بأسرع وقت لأذهب إلى ميدان التحرير وأرى ما حدث للمتحف المصري..