هل هي مسألة تراث؟

TT

طالما شغلت بالي ظاهرة هذا الفساد والاستهتار الإداري الجاري في العراق الآن. ما سره؟ فنحن لم نعرف ذلك من قبل. كشف انقلاب 1958 أن رجال العهد الملكي لم يسرقوا أي شيء من الدولة ومات أكثرهم في فقر وحاجة. لم يملك نوري السعيد حتى بيتا يسكنه. وعندما أقيمت المملكة العراقية جرت إدارتها بسلاسة وكفاءة ونزاهة إلى حد كبير، ولا سيما عند مقارنتها بالوضع الحالي. وكنا جميعا نتوقع أن يقام عراق ما بعد 2003 بشكل أكثر رصانة وبهاء. ولكن الخيبة كانت كبيرة.

فما الذي حدث؟

تأسست مملكة العراق في العشرينات على أكتاف رجال سبق لهم أن تولوا مسؤوليات عسكرية وإدارية وسياسية كبيرة. ياسين الهاشمي وجعفر العسكري ونوري السعيد وبكر صدقي وطه الهاشمي وسواهم كانوا ضباطا وقادة في الجيش العثماني وخاضوا معارك ضارية دفاعا عن دولة الإسلام. تولى غيرهم، عبد العزيز القصاب وتوفيق السويدي وناجي السويدي وسواهم مناصب إدارية عالية في الدولة العثمانية. بالإضافة للخبرة العسكرية والمدنية التي اكتسبوها، تربوا على الشعور بالمسؤولية تجاه الدولة والولاء والإخلاص لها. وظفوا كل ذلك في تسييرهم لشؤون المملكة. وكان على رأسهم فيصل الأول الذي كان نائبا في «مجلس المبعوثان» ثم تولى قيادة الجيش العربي والمفاوضات الدبلوماسية وتسنم عرش سورية.

قارنوا ذلك بالسادة الذين تسنموا الحكم بعد 2003. لم يشغل أكثرهم أي وظيفة تذكر وقضى الكثير منهم جل وقتهم في الغربة يعيشون على المساعدات والأعمال البسيطة دون الاضطلاع بأي مسؤولية عسكرية أو مدنية غير العمل الحزبي. هل نعجب إذا رأيناهم يتخبطون في سعيهم لإدارة دولة كبيرة كالعراق؟

آن لي هنا أن أجازف بما هو أخطر من ذلك وبما سيجلبه علي من النقد والشتائم والتجريح. ولكن التعامل مع الحقائق والمصلحة العامة هوايتي في الحياة. دعوني أسجل أولا ما يردده البعض من أن التخبط الجاري في العراق يعود لأن أبناء الشيعة لا خبرة لهم في الحكم والإدارة. هذا واقع لا جدال فيه؛ فالحكومة العثمانية لم تسمح لهم بأي وظيفة كبيرة في الجيش أو الإدارة لشكها في ولائهم واعتقادها بميولهم نحو إيران، عدوها اللدود. وعندما تأسست المملكة العراقية في العشرينات صدرت فتاوى بتكفير أو تحريم النظام الجديد وردع الناس من العمل فيه. ففات القطار على أبناء الشيعة واستولى أبناء السنة على الوظائف. وفي القطاع العسكري، شكك قادة الجيش، وكلهم من السنة، في ولاء الشيعة وميولهم نحو إيران التي أوشك العراق في الثلاثينات أن يخوض حربا ضدها. النتيجة هي أن الشؤون العسكرية أيضا بقيت خارج معارف الشيعة بصورة عامة.