فلما تحرك نعشها تحرك نعش الأستاذ!

TT

كان يوما أسود أزرق أحمر أغبر يوم توفي أستاذنا عباس العقاد. كانت مفاجأة. مع أن الموت نهاية كل حي.. ثم إن الأستاذ كان مريضا. وكان يقاوم ويدعونا إلى المقاومة. ووقفنا بباب غرفته نتهيب الدخول وأن نراه مسجى. لا صوت ولا حركة. إنها نومته الأخيرة. وممن جاءوا سعداء في هذا اليوم التلفزيون، جاء ليسجل حلقة عن التفسير الحديث للقرآن الكريم. هذا اتفاق مع الدكتور عبد القادر حاتم، وزير الإعلام. وقد وعد بأن يلحق بنا ليشهد الأستاذ العقاد الذي سوف يختار إحدى سور القرآن الكريم نموذجا للفكر الحديث في فهم القرآن الكريم. أما السور التي سوف يختار إحداها فهي: النور والرحمن وهود وقل هو الله أحد.. وتزاحم عمال التلفزيون وتعالت أصواتهم. ورفعنا أيدينا والدموع في عيوننا..

- فيه إيه يا جماعة؟

- ...........

- فيه إيه يا إخوانا؟

- الأستاذ مات..

- يا نهار أسود ومنيِّل. إزاي.. متى.. كيف؟

واختلفت الروايات عن اللحظات الأخيرة لوفاة الرجل العظيم. قالوا: وقع من فوق السرير.. فأعادوه إلى مكانه وهم يرتجفون. وكانت على جبين الأستاذ علامة زرقاء ولعله ارتطم بشيء ما. والوقت لم يكن مناسبا أن نتساءل. وانتظرنا إلى جوار السرير بعد أن أخفينا وجهه تهيبا واحتراما عظيما له حيا وميتا. أما طعامه فقليل ولا نعرف ما الذي أكله أو ما الذي شربه وتكاثرنا نبكي. وبعضنا يدق الحوائط بيديه ومن يلطم خديه. ولا أحد يقول لأحد: كفى. فالموت حق. وكان الأستاذ يقول: أهلا بالموت!

يعنى إيه أهلا بالموت؟ وقالوا إن الأستاذ كان يبتسم. وليس معقولا أن عزرائيل كان يقول للأستاذ نكتة أو أن الأستاذ قد رأى الدنيا كلها لا تساوي فابتسم لهذا المقلب. وحولنا الجد إلى هزل. وقلنا: ما رأيكم أن نحاول أن نعرف النكتة التي قالها ملك الموت للأستاذ؟ وتوقفنا عن هذا العبث. وجاء المفكر الكبير زكي نجيب محمود واجما ولم يسأل عن أي شيء. وجاء كثيرون. وكان لا بد أن نعطي فرصة للحانوتي وأهل الفقيد. وفي نفس اليوم عادت ابنة الأستاذ العقاد وأمسكت أحذية كثيرة وراحت تلطم بها خديها.. ونزلت تجري. وانتحرت. وساعة الجنازة وقف نعش العقاد فوق رؤوسنا لا يريد أن يتحرك ولم نفلح في أن نحركه. وتقدم كثيرون يحاولون. ولكن النعش لا يتحرك. ووقفنا عاجزين.. وجاء أحد تلامذة العقاد يقول: إن الأستاذ لن يتحرك قبل أن يتحرك نعش ابنته. وهذا ما حدث. فلما تحرك نعشها تحرك الأستاذ..

(من مذكرات لم تنشر بعد).