مداواة الأزمات بحلول مؤقتة

TT

قدر الناس أن يتكلوا على الدولة في معظم نواحي حياتهم اليومية، هذه طبيعة الحياة الحديثة. لقد انتهى زمن رجل الكهف ورجل المزرعة وراعي الغنم، عندما كان دور الحكومة تقريبا صفرا، عندما كان يعيش مستقلا حرا على الرعي أو الزراعة. غالبية السكان اليوم هم موظفو دولة، أو يعيشون على موظفي دولة، وكل مناحي حياتهم اليوم تديرها مؤسسات رسمية أو مرتبطة بها، سواء أكانت مياها أو كهرباء أو غداء أو علاجا أو سفرا. هذه الاتكالية بقدر ما تمنح النظام سلطة هائلة، فإنها أيضا تفرض عليه واجبات هائلة، في علاقة مركبة بين الطرفين تتطلب أيضا الثقة عند المواطن والمصداقية عند السلطة.

وما التوتر إلا حالة من حالات تراجع الثقة، حينها تكون المصداقية العملة الأهم، حيث إنه كلما قلت مصداقية الدولة تراجعت حظوظها في حل مشكلاتها سلميا. ومن الطبيعي في الأوقات المضطربة أن يخاف الناس ويتصرفوا وفق حس الخوف لا منطق المصلحة العامة. وعندما يطالب البعض باسم الحماية أو الوطنية بإغلاق أسواق المال وأسواق الأسهم وسد الباب أمام الهاربين ومنعهم من تحويل أموالهم، فإنهم يخاطرون بأهم رابط بين الطرفين، الثقة في النظام.

سوق البورصة السعودية تعاني من نزيف سببه الهلع من نيران الاضطرابات في المنطقة، وهو شعور طبيعي ومتوقع تماما، وكذلك تزايد التحويلات المالية الهاربة سببه الخوف. وعند منع الحكومة هذه النشاطات التي كان مسموحا بها في زمن «الاستقرار» تكون قد سددت أسوأ ضربة للعلاقة بين النظام والمواطن. المنع يعكس ضعفا في ثقة النظام في نفسه، وهو الأولى به قبل مواطنيه أن يشيع روح الطمأنينة. فالضرر المستقبلي الذي يحدث من التدخل في سوق الأسهم والنظام المصرفي بقرارات تخالف النظام كبير، وقد لا يمكن إصلاحه، خاصة في دول مثل السعودية ليست مضطرة للتدخل بالمنع، لأنها لا تعتمد في مداخيلها أصلا على جبي الضرائب، ولا يشكل القطاع الخاص إلا رقما هامشيا في نشاط الحكومة وحياة المواطن، ومن يهرب بأمواله سيعيدها عندما يكتشف أن تقديراته خاطئة.

مداواة الخوف لا تتم بزيادته، مثل الإغلاق ومنع التداول ومنع التسييل أو التحويل المالي، أو بإغلاق الإنترنت، أو بمنع السفر، وغيرها من الإجراءات التي تتخذها عادة الأنظمة المضطربة. ونحن لا ندعي أن الحياة طبيعية، فالمنطقة في حريق لم تعرف مثله من قبل أبدا، ولا ننكر ضرورة رفع حالة الحذر والتعامل مع القلق بما يستوجب. وخير وسيلة هي الاستماع والتعديل والتغيير والتراجع، هذا فن السياسة وديدنها وليس المنع والحظر والتضييق.

الأمر الآخر أن تلبية المطالب المعيشية ليست بالضرورة أسهل من تحقيق المطالب بالإصلاحات السياسية، رغم أن الكثيرين يعتقدون أن مداواة الاحتجاجات بزيادة المرتبات سهلة، مجرد «شخطة» قلم. كما أن توظيف مليون عاطل عن العمل أكثر من مجرد مرتب شهري، ومنح القروض الشخصية يتطلب إدارة حقيقية حتى لا يتحول نصف مليون مقترض إلى متورطين في الديون والمشاريع الفاشلة، وإقراض بناء المساكن من دون حماية مسبقة سيعني تقاتلا على مواد البناء الأولية وارتفاع الأسعار وفشل الناس، وتنتهي أموال الحكومة التي أقرضتها للمواطنين في جيوب التجار وسماسرة السوق.

واهم ذلك الذي يظن أنه يمكن حل مشكلات عمرها عشرات السنين في ظرف أيام. ما نراه اليوم من بطالة وتناقص في مستوى المعيشة نتائج طبيعية لسوء التعليم وسوء الإدارة، وما أفرزاه. مسألة لا يمكن حسمها في ظرف أسابيع، كما يتوهم البعض، بل ستتطلب رؤية ثاقبة وبرنامجا إصلاحيا طويلا وشجاعة سياسية.

[email protected]