الحريري ووائل غنيم

TT

«مين مفكر حالك، وائل غنيم؟» هكذا سخر مصطفى حمدان، المعروف بانتمائه إلى فريق «8 آذار»، من سعد الحريري، إثر خطابه الرنان الذي ألقاه بمناسبة اغتيال والده يوم 14 فبراير (شباط) الماضي. الجملة لم تستوقف الكثيرين، رغم ما لها من دلالات تستحق التأمل. فالعالم العربي بات فيه العشرات من أمثال وائل غنيم، والذين يقودون في الخفاء وبفاعلية مدهشة ملايين الشباب المتظاهرين في الشوارع العربية، ولا يبتغون لأنفسهم منصبا أو مركزا، مقابل الزعامات التقليدية الشهيرة التي يمكن استبدال اسم الحريري بأي منها، لتصبح الجملة صالحة للتعميم.

وكان الكاتب الإيطالي البديع أمبرتو إيكو، أعلن منذ بداية تسعينات القرن الماضي، عن موت «السوبرمان»، مبشرا بولادة بطل جديد هو الـ«إفري مان»، أي «الإنسان العادي» الذي يشبه أيا منا، لكنه ينجح في تحقيق مهمات متواضعة على مقاسه، تكون مؤثرة وإيجابية. فالبرجوازي الصغير حاليا لم يعد يعتبر نفسه في مواجهة قوة أسطورية تحتاج لبطولة استثنائية لمصارعتها، وباتت همومه تتركز على قضايا محددة، قد تصغر لتصبح مجرد الفوز بجائزة برنامج تلفزيوني للألعاب، والحصول على مبلغ مجز يحسن من مستواه المعيشي. وقد تكبر لتصبح تجميع بعض الأصدقاء على الـ«فيس بوك» للسير معهم في الشارع والمطالبة بالقليل من الأكسجين.

ويمكن للقراء أن يتذكروا عشرات الروايات العربية التي اختفى منها البطل المقدام، لصالح شخصيات تكافح من أجل لقمة العيش أو الفوز بشهادة جامعية وربما مجرد العثور على شريك العمر كما في غالبية الروايات النسائية. وهو ما ينطبق على المسرحيات والمسلسلات التلفزيونية. وعندما صعد نجم برامج تلفزيون الواقع مثل «ستار أكاديمي» و«بيغ براذر» التي جعلت من أناس عاديين، بلا أدنى موهبة أحيانا، نجوما في غضون أيام عدة، تبارى الكتاب العرب في نقدها والهجوم عليها، دون أن يهتموا بفهم سر الجاذبية الساحقة التي مارستها على ملايين المتفرجين من المحيط إلى الخليج.

التحولات سريعة صحيح، لكن المؤشرات كانت كثيرة وبينة، لمن يحب أن يفهم، ما يطلبه الجمهور. فعدا الأرقام المرعبة التي كانت تظهر في الإحصاءات والدراسات التي تطوى في أدراج المكاتب المنسية، ردد شباب الراب في أغنياتهم برنامجهم الثوري الذي نراه اليوم على الأرض، وصرخت الأفلام الوثائقية وتلك القصيرة التي ينتجها الطلاب في جامعاتهم وبعد تخرجهم بمطالب جريئة كانت تستحق الإصغاء لها والتجاوب معها. معارض الصور الفوتوغرافية، التجهيزات الفنية، المدونات، كلها كانت تنضح بالنقد والسخرية من واقع فج ومصاب بفيروسات قاتلة، بينما انشغلت الصفحات الأولى للجرائد بالتصريحات السياسية الخشبية والأخبار الرسمية المكرورة والمضجرة، وطي صوت الناس، وصراخ الفنانين واحتجاجات الغاضبين، في الصفحات الداخلية الهامشية. وهو ما خدع السياسيين وأغشاهم بقدر ما أساء إلى الجماهير الغفيرة. حتى برنامج «كلام الناس» اللبناني التلفزيوني الذي يفترض أن يحترم اسمه، نادرا ما خصص وقتا للشعب المقهور، ولا يزال يخون مهمته، ويستضيف السياسيين الذين يلوكون الكلام نفسه من سنين، دون أن ينفذوا وعودهم أو يجدوا من يحاسبهم؛ ببساطه لأن الناس مغيبون، على اعتبار أننا لا نزال في زمن «السوبرمان»، الذي ولد في ثلاثينات القرن الماضي، وما عاد يصلح إلا للأرشيف. أما «سوبرمان» ليبيا فقد تحول إلى مجموعة من النكات وأفلام الـ«يوتيوب» والتسجيلات الساخرة التي تعتبره آتيا من زمن سحيق.

مؤسف أن ترصد الصحف الغربية التحولات الشعبية العربية، وتقدرها وتحللها، اليوم، بأفضل مما يفعل الإعلام العربي الذي لا يزال يلهث وراء الخبر. فما بات يسمى «ربيع العرب» في الغرب، يفتح النقاش على مصراعيه حول غفلة الغرب عن التحولات التي كانت تعصف في المنطقة دون أن ترصد أو تفهم، ليقول الفيلسوف الفرنسي ألان باديو في مقالة طويلة وغاضبة في صحيفة «لوموند»: «عندما تكنس رياح الشرق غطرسة الغرب، فإن انتفاضة الشعوب العربية تصبح نموذجا للتحرر»، ويدعو قومه الذين يصفهم بـ«الأساتذة الأغبياء» لأن يتتلمذوا على أيدي الشعوب العربية التي تعطي دروسا للعالم في «العبقرية السياسية الشعبية الخلاقة».

فلاسفة ومحللون ومؤرخون يستفتون اليوم في كبريات الصحف في فرنسا وبريطانيا وأميركا، لفهم الظاهرة العربية التي يقول كثيرون إنها ستعصف شرقا وغربا بعد أن بلغت طهران وأصابت شظاياها بكين، وإن بأشكال مختلفة، وثمة ما يشبه الإجماع على أنها مفصل تاريخي عالمي، لا يقل أهمية عن الثورة الفرنسية.

رغم ذلك، لا يزال الخطاب الرسمي العربي في عمومه قابعا في زمن «السوبرمان» لا يريد أن يعترف بأننا دخلنا منذ عقدين في عصر الـ«إيفري مان»، حيث يتمكن شابان في بنغازي من إطلاق إذاعة تتحدث باسم الثوار الليبيين، ويملك كل من يريد وكالة أخبار خاصة به على صفحة في الـ«فيس بوك»، ويتحول كل من يملك مطلبا براقا وشعبيا إلى قائد حملة احتجاجية تطيح بنظام.

نحن أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاعتراف بأن زمن «الأخ القائد» و«الرفيق المناضل» قد انتهى إلى غير رجعة، وإما الدخول في مزيد من الثورات البيضاء والحمراء، التي لا نعرف إلى أين ستقودنا جميعا. فكل ثورة هي في النهاية، مغامرة جميلة لمن يتفرج عليها وهو متمدد على أريكته أمام التلفزيون، أما لأصحابها فقد تكون مكلفة جدا وباهظة التكاليف. وبالتالي فالهوة التي تفصل كل «حريري»، في العالم العربي مهما كبر أو صغر، عن كل «وائل غنيم»، يجب أن تردم بسرعة البرق، لأن فيروس الثورات، يبدو أنه لا يبقي ولا يذر.