الفن والحاسة السابعة

TT

حينما كتبت «أوراق من حياة فنان العرب» التي نشرتها مجلة «سيدتي» على حلقات قبل أعوام، اتفقت مع الفنان محمد عبده أن نتجنب الوقوع في إشكالية الكائن (السوبرمان) التي يتورط فيها الكثير من كتاب سير المشاهير، وأن نقدم شخصيته - كإنسان وفنان - بكل هزائمها وانتصاراتها، وقوتها وضعفها، ونجاحاتها وإخفاقاتها، وكان سهلا على فنان ذكي مثل محمد عبده أن يدرك أهمية ذلك، فراح يسرد علي الكثير من مثل تلك اللحظات والمواقف، ومنها تجربة ظهوره لأول مرة على مسرح الإذاعة حينما غنى قصيدة بالفصحى من كلمات الشاعر والمخرج الكبير سعيد الهندي أوشك الجمهور خلالها أن يخلد إلى النوم العميق قبل أن يأتي الفنان الراحل عبد الله محمد ليشعل المسرح حماسة بأغنيته الشهيرة «حيران وليه سنة»، ليلتها شعر محمد عبده بأنه قد قضي عليه بالضربة القاضية، وكادت تلك الحادثة تصيبه بالإحباط لولا نصيحة خبير قدمها له الشاعر الغنائي إبراهيم خفاجي، حينما أوصاه بأن الغناء المباشر أمام الجمهور له مفاتيحه التي تكتسب بالتجربة بحيث يتشكل مع الزمن لدى الفنان إحساس بنوعية المستمع ولونه الغنائي، ومن يومها لم يترك محمد عبده مناسبة يغني فيها أمام الجمهور إلا واغتنمها حتى أنه كان يذهب إلى حفلات الزواج ليغني فيها مجانا للتزود بتلك الخبرة التي مكنته بعد ذلك من كسب الجمهور واستشعار توجهاته الفنية.

وكان المرحوم طلال مداح يمتلك بثراء كبير هذه الحاسة الفنية التي تقيس توجهات الجمهور، ومن النوادر الطريفة التي تروى عنه أنه كان في بدايته يحيي حفلا فنيا مع الفنان المعروف عمر كدرس أمام جمع كبير من الناس، فخشي من الكدرس أن يسرق منه الجمهور إذا ما تغني بـ«يا سارية خبريني»، فراح يقنع (الكدرس) بأن عليه أن يسلطن بأداء أغنيات كلاسيكية، وهو يعلم أن هذا اللون من الغناء ليس ذلك الوقت وقته ولا ذاك الجمهور الموجود في تلك الليلة جمهوره، فتورط الكدرس في المقلب الذي دبره له طلال مداح وانصرف الجمهور عن الكدرس وأصابهم الملل ليأتي بعده طلال مبتدئا بـ«وردك يا زارع الورد»، تلاها بعدد من الأغنيات الشعبية ذات الإيقاع السريع التي تفاعل معها الجمهور بصورة لافتة أشعرت الكدرس بعمق الفخ الذي نصبه له طلال، وظل الكدرس حتى آخر حياته يروي ضاحكا ذلك المقلب الذي تورط فيه.

على العكس من هؤلاء، هناك مجموعة من الفنانين الذين يمتلكون أصواتا عذبة يمكن أن تطربك عبر شريط (الكاسيت) ولكن حظهم في الحضور المباشر أقل كثيرا من إمكاناتهم، وهؤلاء كثيرا ما تجني عليهم الحفلات وتقتات من رصيدهم لدى الجمهور.

والخلاصة: أن النجاح في الفن الغنائي لا يمكن أن يكتفى فيه بعذوبة الصوت، ولكنه يتطلب حاسة إضافية (سابعة) لدى الفنان تمكنه من القراءة السريعة لطقس الجمهور الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان والمناسبة.

[email protected]