دور جديد

TT

الأربعاء، 2 مارس (آذار). طرابلس الغرب. يدعى المراسلون الأجانب إلى قاعة كبرى مكتظة بالحضور، بعضهم يغلب عليهم الملل، والنساء في حالة تأهب للتصفيق. يقوم مسؤول تاريخي من اللجان بتقديم الرجل الذي غير مجرى التاريخ، إلى الحضور. تصفق نسوة في الصفوف الخلفية لكل مقطع رنان، وفجأة ينضب حماس عريف الحفلة وينضب قاموسه من ألفاظ التمجيد.

الآن يستعد الرجل نفسه لمخاطبة شعبه، داخل القاعة، وخارجها. لا مكان اليوم للثوب الأفريقي بطياته ولفائفه. ثوب أقرب إلى الوقار الليبي، مع بعض الطرائف الإضافية، وقبعة ليبية غير فاقعة اللون. ونظارتان بغير ألوان صفراء غريبة. والورقة التي سيقرأ منها، ليست ممزقة مثل الورقة التي قرأ منها خواطره أمام الأمم المتحدة، ثم رماها في الهواء، وهو يخاطب الوفود التي جاءت تستمع إليه: جميعكم ناعسون. أنا لست نعسانا.

ليس الزي وحده مختلفا عن أزياء الأمس والأمس الذي قبله والأيام التي سبقت. الصوت أيضا مختلف. هادئ ومنخفض. لا انفعالات. ولا كلاب ولا جراثيم. لكن لا يخلو الأمر، عند الحاجة، من أن يرفع إصبعيه، ليس في إشارة النصر، بل في إشارة القهر. الرجل يشرح للسامعين، ما حاول أن يفهمهم إياه منذ 34 عاما. كيف أن لا دخل له في السلطة. كيف أن الشعب الليبي هو الحاكم. كيف أن لا علاقة لأولاده بشيء ولا هم يملكون شيئا. بالكاد مصاريف النهار ونثريات الضرورة. وهو أيضا لا يملك شيئا. ليس حتى 450 دينارا ليبيا، أي أقل من 200 دولار، هذه العملة الفاقدة جدواها. وكل ما تسمعونه عن مصادرة ودائع بالمليارات بأسماء أبناء الأخ القائد، أكاذيب عفنة. فما هي إلا أموال الشعب الليبي.

أين الشعب الليبي؟ ربعه مشرد في المنفى، و80 في المائة من الذين لم يهاجروا يسيطرون على 80 في المائة من مدن ليبيا ومواقعها. وبما تيسر لهم من سلاح بسيط يواجهون طائرات الأخ القائد ودباباته في شجاعة لا توصف. يقاتلون كتائبه وكأنهم يقاتلون الاستعمار الإيطالي الذي لا يكف الرجل عن تذكيرهم به. ويرفعون على مدن ليبيا العلم القديم، علم الوحدة والاستقلال، فيما يحدثهم هو عن انتصاره على الرجعية.

ولم يدرك الرجل أنه بعد 42 عاما من هذا النوع من التقدمية أصبحت الرجعية أمنية ومطلبا. العودة إلى دولة فيها مؤسسات، مهما كانت ضعيفة، وفيها علاقة بين الحكم والناس، وفيها تواضع الحاكم وتقواه، وفيها خصوصا تواضعه. كان الرجل هادئا بعد ظهر الأربعاء. لكنه كالعادة، كان كادحا لا يملك شيئا. لا مالا ولا سلطة ولا مقاتلات يقذف بها «المتمردين» والكلاب الضالة.