خليج الأزمة.. التلكؤ سيد الموقف

TT

الأزمات السياسية التي تعصف بعدد من دول العالم العربي - سمي بعضها ثورات - دوافعها ليست واحدة، كل دولة أو مجتمع له خصوصية ما؛ فمصر ليست الجزائر ولا ليبيا البحرين أو عمان. المشترك بينهما جميعا هو القوى الناعمة للجماهير التي تحركت أو ترغب في الحركة بدوافع شتى، ترفض ما هو قائم، لكن لا تعرف على وجه اليقين إلى أين سوف تنتهي الأمور. أما بقية التفاصيل فهي مختلفة كل الاختلاف، خاصة في الأهداف التي يراد تحقيقها.

ردة فعل النظام المصري على ما حدث، وإن تركت بعض الضحايا، هي غير ردة فعل النظام الليبي، الذي لا يهمه عدد القتلى بقدر ما يهمه أن يبقى الزعيم حتى لو على كومة من الجماجم الليبية. في كل من مصر وتونس وليبيا المطالب هي تغيير النظام من أجل إنشاء نظام أفضل. أما الاختلاف في التفاصيل فهو كثير؛ لأنه لم يستقر أحد على تحديد معنى الأفضل! في البحرين بالذات وربما في دول الخليج تختلف الأمور، فالأهداف غير المعلنة هي الإلحاق بدولة أخرى، يرى مناصروها في الداخل أنها النظام السياسي الأفضل، هذا رأيهم، لكنه ليس رأي الآخرين شركائهم في الوطن.

على الرغم من تراكم السلبيات، التي كان العقلاء ينبهون إليها منذ زمن، دون أن تعار آذانا مصغية. وهي سلبيات لها علاقة بالإدارة التي لم تهتم لا بالكفاءات ولا بالكرامات.. على الرغم من ذلك، فإن المجموعة المحركة في البحرين هي قوة مدعومة من الخارج، وأقول القوى المتشددة ولا أقول الجميع، وبصراحة محركة من إيران بالذات أو أجهزتها، ثم التحقت بها قوى لها رغبة حقيقية في الإصلاح، إلا أن المشكلة أن هذه القوى الأخيرة لن تستطيع وقف قطار الإلحاق متى ما غادر محطته؛ لأن أجندة الإلحاق سوف تفرض عليهم.

التاريخ القريب والبعيد يعلمنا الكثير مما نريد أن نعلمه. ففي الوقت الذي تطارد فيه رؤوس المعارضة الإيرانية في المدن الإيرانية المختلفة، ويختفي عدد من الشباب الإيراني المعارض في السجون، وتستخدم القوة الفظة هناك لإخضاع رغبات شعبية في الاحتجاج. في الوقت نفسه، نجد أن البعض الإيراني يرى أن الحراك العربي هو تقليد لما تم في إيران قبل نيف وثلاثين عاما. هو ليس كذلك، كما يرغب في توسيع نفوذه الحقيقي في صراعه ضد القوى العالمية أو توجهه لإقامة إمبراطورية يحلم بها من يحكم إيران في أغلب الأوقات.

المهادنة التي يلقاها النظام الإيراني حيال تدخله غير المقبول في دول الخليج وبعض الدول العربية الاخرى، تحت الغطاء المذهبي، هي مهادنة في غير مكانها، هذه المهادنة تفسرها الدوائر الحاكمة في طهران على أنها ضعف. وإذا استمرت المهادنة فهي بالتأكيد تقود إلى تأكيد النظرية الإيرانية، بأن هذا الخليج هو بحيرة إيرانية. أكبر مهادن لمثل هذه التيارات هو المرحوم رفيق الحريري في لبنان، هادن وهادن حتى دفع حياته ثمنا لهذه الهدنة غير المتكافئة، وتشير أصابع الاتهام إلى أن عملية اغتياله قد تكون خلفها أيادي الذين هادنهم. الفرق أن الخسارة هناك لأشخاص، أما المهادنة على ضفاف الخليج هنا، فإن ضحيتها مجتمعات بكاملها، وتاريخ كامل للوجود الإنساني، ضحيتها في الحقيقة هي الأوطان.

الرئيس أحمدي نجاد في خطابه في بيروت، قبل أشهر، قال: إن هناك محورا يتشكل من طهران إلى بيروت مرورا بدمشق وبغداد. هذا المحور يريد أن يمتد الآن إلى دول الخليج لإحكام الطوق عليها، تحت غطاء مطالبات معيشية حقة، يريد البعض تحويلها إلى مطالب فئوية لها علاقة بالإلحاق لا بالاستقلال.

قد لا تتطور الأمور إلى الأفضل، وقد تنتقل من مطالب معيشية وحياتية وسياسية إلى فرض الرأي الواحد، بل والإلحاق بمركزية طهران. فمن الأولى أن يتحدث بعضنا بصدق ووضوح إلى شرائح سياسية مؤثرة في المعارضة، أن وقت الاتفاق السياسي قد أزف، وأن تطوير الرفض حتى الوصول إلى طريق مسدود، تحت ترهيب أو ترغيب، قد يؤدي إلى الإلحاق، وفقد المبادرة. وليس في مصلحة أحد حتى المندفعين اليوم وراء التصعيد، أن يحدث ذلك، ما يعانونه من خلل سياسي أو حرمان فئوي حقيقي، ليس حله هو الإلحاق. من المصلحة السير في طريق الإصلاح؛ لأن الطريق الآخر سوف يفقدهم ليس وطنهم فقط، بل حرياتهم الإنسانية أيضا.

لا أحد يعرف إلى أي اتجاه سوف تسير الأمور لا في مصر ولا تونس ولا حتى ليبيا، والخيارات كلها مفتوحة. ولا أحد يعرف ما إذا كانت الأوضاع القمعية في إيران سوف تستمر بالتضحية بدماء البشر في سبيل بقاء الحكم. العاملان المشتركان العامان في كل من الأنظمة التي سقطت على الجانب العربي، والنظام الإيراني في جوهرهما: غياب كامل للحريات، وتكميم الأفواه.

البدائل المتاحة في البحرين مختلفة، هناك قاعدة انتخابية يمكن تطويرها، وهناك حريات معقولة يمكن توسيعها وهناك مجتمع مدني يتيح نسبيا الجهر بالرأي. النموذج الإيراني ليس مقبولا من شرائح واسعة من الناس وعدم القبول هذا متخطٍّ للطائفة، من هنا فإن العقل يدعو إلى الحوار وإيجاد صيغ سياسية مقبولة من دون تفريط من جهة، ولكن أيضا، وهذا هو المهم، من دون إفراط.

الإصلاح في الخليج اليوم مطلوب أكثر من أي يوم آخر، إصلاح في الداخل من حيث الإدارة والخدمات والحريات، إلا أن المهم التفكير في تطوير منظومة دول مجلس التعاون. وهو تفكير كان واجبا على الدول الخليجية التفكير فيه بجدية منذ 20 عاما على الأقل، أي منذ احتلال النظام العراقي للكويت. إلا أنه تلكأ كثيرا. اليوم التهديد من الجارة الإيرانية للاستفادة من الظرف الموضوعي للإخلال بالنسيج الاجتماعي في كل المنطقة تحقيقا لنصر تتوخاه أو إضعافا في الخاصرة العربية ترجوه. فلم يعد والأمر كذلك، التوهم بسيادة قد تخرق في أي وقت.

العصي المربوطة مع بعضها - تقول لنا الحكمة الخالدة - عصية عن الكسر، أما المنفردة فإنها سوف تكسر واحدة تلو الأخرى. لقد قال بذلك عدد من نخب الخليج في أكثر من مناسبة وأكثر من موقع ولسنوات طويلة. إلا أن الآذان وقتها كانت مقفلة، فإن بقيت كذلك، فإنه لا أحد معصوما من الطوفان، وإن ظن غير ذلك.