نعم للثورة.. لا لإلغاء الدولة

TT

لا تحدث الثورات بتخطيط أو تدبير من أحد، بل هي تشتعل ذاتيا في أساسات الدولة بشكل مفاجئ بعد طول احتباس، بل ربما تكون الثورة مفاجئة أكثر لهؤلاء الذين اشتركوا في صنعها. هناك دائما قبل تفجر الثورة بعير تم تحميله فوق طاقته فيما هو صامد وساكت كأي بعير قوي كريم، ثم يحدث أن يضيف أصحابه إلى حمولته قشة وهنا تحدث المفاجأة التي لا يصدقها أحد، وهو أن هذه القشة كانت سببا في قصم ظهره. ولسنوات طويلة سوف ينشغل المؤرخ المعاصر بالبحث عن طبيعة هذه القشة التي قصمت ظهر البعير في ميدان التحرير.

لا بد من الاعتراف بأن للثورات بهجة تنعش قلوب الثوار وتكسبهم قدرا عاليا من الثقة بالنفس ما يجعلهم في أحيان كثيرة يعتقدون أنهم قادرون على القفز فوق حقائق الحياة الراسخة، ومن حقائق الحياة في عصرنا، وأي عصر، الدولة بتشكيلاتها ومؤسساتها الضرورية لحماية حقوق الإنسان الفرد. كل جهود البشر العاملين في السياسة وأولهم الثوار لا بد أن تنصرف إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة وأولها المؤسسة الأمنية. وأذكر الجميع أن الاسم الصحيح لمؤسسة الشرطة هو (law enforcers) منفذو القوانين. هذا هو ما يجب أن نطلبه ونصر عليه، وحكاية ذلك الطلب الشهير بإلغاء أمن الدولة لا بد من التوقف عنده قليلا وربما كثيرا، من حقائق الدولة المعاصرة والقديمة أيضا التي أعترف بأنها كريهة، وجود شرطة سرية تمارس أعمالا يأباها الشخص الطبيعي. هذه حقائق لا بد من التعامل معها، وذلك لضمان أن تعمل كل أجهزة الشرطة السرية في إطار قانوني. فإذا كنا نبحث عن دولة عصرية يحترم فيها منفذو القانون القانون، فلا بد أن نكسب خبرات الآخرين الذين قطعوا شوطا طويلا في الحفاظ على حقوق الإنسان، المعلومات في هذا العصر متاحة لمن يطلبها، علينا أن نعرف كيف تعمل الشرطة في أميركا وفي إنجلترا وفي فرنسا وفي سويسرا، نعم لا بد أن نبدأ من أعلى نقطة وصل إليها البشر في هذا العالم. نعم كان جهاز أمن الدولة يستطيع أن يفعل أي شيء في أي مواطن لا ترضى عنه القيادة السياسية، وكانت القيادة السياسية مكونة من شخص واحد، نعم شخص واحد يفهم في كل شيء أكثر من الناس جميعا، أو هكذا كان يتصور. بل ربما كشفنا بعد قليل عن جهاز أو أجهزة سرية لا تعمل في إطار قانوني لها صلة بوزارة الداخلية، وربما ساعدنا ذلك على الوصول لإجابات مقنعة لأسئلة كثيرة حيرتنا طويلا، لست أتكلم عن ماض بعيد، بل عن أيامنا هذه، لقد صرح السيد أحمد أبو الغيط أن السيد عمر سليمان تعرض لمحاولة اغتيال مات فيها عدد من رجال حراسته، كما قتل فيها كل المهاجمين، ترى من في مصر قادر على إعطاء مثل هذا الأمر؟ من هم هؤلاء الناس، ومن أعطاهم الأمر بقتل نائب رئيس الجمهورية السابق ورئيس المخابرات؟ وماذا كانت عملياتهم السابقة؟ وإلى أين وصلت التحقيقات في هذا الحادث؟ وفي كل الأحوال علينا أن نعرف أنه في غياب مؤسسات شرعية دستورية قوية لا بد أن يلجأ الحاكم إلى أجهزته السرية لتكون هي وسيلته الوحيدة في الحكم.

في وجود مؤسسات دستورية لم يأت أصحابها بالتزوير، وفي وجود رئاسة للجمهورية تحكم لمدة واحدة أو مدتين فقط، وفي وجود أجهزة رقابية تعمل لوجه الله والوطن من خلال قوانين صارمة وواضحة، وفي وجود برلمانات حقيقية، وفي وجود حكومة متميزة وصل أعضاؤها إلى مناصبهم بفضل كفاءتهم وقدرتهم على العمل الشاق من أجل المصريين، من المستحيل أن (تستفرد) بنا أي أجهزة في الشرطة أو غيرها.

السيد رئيس الوزراء الجديد المهندس عصام شرف خطب في ميدان التحرير في مئات الألوف المحتشدين في الميدان وقال لهم: لقد انتهى الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر غير أنه لم يشرح ما هو؟ وذلك لأن مئات ألوف الأصوات كانت تهتف بينما هو يتكلم، غير أن المشاهد استطاع أن يميز قوله بأنه يستمد شرعيته من الميدان، هي مجاملة لطيفة للمحتشدين، غير أن الواقع والحقيقة هي أنه يستمد شرعيته من الجهة التي أصدرت قرار تعيينه وهو المجلس العسكري الأعلى. لفت نظري أيضا في المشهد وجود السيد خيرت الشاطر نائب جماعة الإخوان المسلمين المصرية الذي أفرج عنه منذ ليلتين فقط، كان إلى جواره، وأنا لست أريد أن أستنتج من هذا الجوار أو المجاورة شيئا، فالمشهد قديم جدا، شاهدته مرتين، الأولى أيام عبد الناصر، عندما حل الأحزاب جميعا وأبقى على جماعة الإخوان، ثم حدثت محاولة اغتياله بواسطة فرد منهم في الإسكندرية، وحدث بعد ذلك ما حدث. والمرة الثانية كانت أيام السادات عندما استعان بجماعة الإخوان للقضاء على الناصريين وحدث بعدها ما حدث. هذه حسابات سياسية خاطئة، كانت خاطئة في الماضي وهي أشد خطأ الآن.

ولدي كلمة للإخوة في ميدان التحرير «القوة لا تنتج حقا شرعيا.. جيمس ستيوارت مل» وأنتم ثرتم على نظام الحكم السابق غير أنكم لم تستولوا عليه بالقوة، حتى يحق لكم تصور أن تتم الاستجابة لكل طلباتكم ومعظمها انفعالي ولا شأن له بدوران عجلة الدولة في الاتجاه الصحيح، لقد تمت تنحية الرئيس السابق ليس بالقوة ولكن بعدم استخدامها من المؤسسة العسكرية. أنتم لم تحاصروا الرئيس السابق في قصره، لم يحاصره أحد، بل تركته المؤسسة العسكرية يدرك بوضوح أنها لن تستخدم القوة في مواجهة الشعب المصري.

ضابط كبير في ميدان التحرير منذ ليلتين طلب منكم أن تختاروا عددا من قياداتكم وأن تقابلوه لإجراء حوار في مكتبه في الميدان في الصباح في الوقت الذي يروق لكم. ولكن ذلك لم يحدث، كان ردكم هو «طلباتنا معروفة.. حانتكلم في إيه؟» إذا كنتم تتصورون أن وجودكم في الميدان يحدث بحكم القوة، فمن الناحية العملية هي لا تنتج حقا شرعيا، أما في السياسة فلا بد أن يستمر الحوار، لأنه من المعروف أنه عندما يتوقف الحوار يبدأ القتال، لا بد أن تعوا جيدا حقيقة مؤكدة وهي أن شرعية أي قرار في مصر الآن نابعة من المؤسسة العسكرية المصرية. عليكم وعلينا أن نتحمل ذلك إلى أن تحصل مصر على حكومة ومؤسسات دستورية. لا تستغلوا كرم هؤلاء الناس أكثر من اللازم، لا داعي لتحميل الجمل فوق طاقته، ثم إضافة قشة جديدة بطلب جديد كل يوم وكل لحظة ثم الصياح: «إحنا قاعدين هنا لحد ما تتنفذ طلباتنا».

لقد جاء الوقت الذي تفكرون فيه في معيشة المصريين وليس في طلباتكم وحدها.