صلاة الجمعة مع «تويتر» والـ«فيسبوك»

TT

منذ الفتنة في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ومحاصرة بيته ثم قتله، بدأ الإسلام السياسي يمثل خطرا على السلم الاجتماعي، وكان من أهم مظاهر انتشار الإسلام السياسي هو استخدام أدوات الإعلام الديني المشرعة في الدستور الإسلامي من أجل تمرير مشاريع التوسع والسيطرة، وأهم هذه الأدوات على الإطلاق هي صلاة الجمعة.

في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم مثلت منابر المساجد وسيلة هامة للمتطرفين الإسلاميين في كل أنحاء العالم، من لندن إلى جاكرتا وحتى الرياض، بهدف العبور إلى أذهان فئة الشباب، وتعميم لغة الخطاب الحادة ذات الاتجاه الواحد وفرضها على المجتمع حتى وصلت إلى مرحلة السيادة على الشارع. حتى الحكومات الإسلامية، رغم ما كانت تدركه من خطورة هؤلاء على أفكار الشباب، كانت تتحرج من التضييق على خطباء يوم الجمعة حتى لا يستثار الناس، فالحركات الإسلامية حينها كانت في أوج قوتها ونفوذها. طبعا قبل أحداث 11 سبتمبر التي شكلت ضربة على رأس السطوة الأصولية.

ولكن من سنن الكون أن في كل عقدين أو ثلاثة من الزمان تتولد أنماط جديدة من السلوك والوسائل، نستطيع أن نراها بوضوح في قراءتنا للأحداث منذ ما قبل ثورة 25 يناير في مصر. فبعد كل صلاة جمعة، والاستثناءات هنا قليلة، كانت عمليات التفجير والتفخيخ ترتكب في أحد مساجد باكستان أو المناطق المتاخمة له، والسبب كما هو واضح كان استغلال تجمهر الناس في هذه الشريعة للإضرار بأكبر عدد ممكن منهم، حيث يقاس حجم نجاح العملية الإرهابية بعدد الضحايا وحجم التدمير. هنا اختلف استخدام يوم الجمعة من يوم تلتقي فيه وفود المصلين للاستماع لخطبة رجل واحد تحمل رؤيته تجاه قضية محددة، إلى كونه يوما للتجمع الكثيف في مساحة محدودة، وبالتالي تحول المصلون من مستهدفين بالخطاب الديني إلى مستهدفين بالسلاح.

المسألة واضحة كذلك في ثورة يناير المصرية، حيث كانت كل أيام الجمع موعدا للتفويج والتكتل في ميدان التحرير، كل الحشود مارست الاحتجاجات في ظل ثقافة يوم الجمعة. ربما كان بعضهم قبطيا، أو لادينيا، أو جاء للصلاة بلا وضوء، ولكنهم حضروا لأن يوم الجمعة مناسبة للتجمع التلقائي المنظم.

حتى حينما خطب الشيخ يوسف القرضاوي لم ينتبه لخطبته أحد، لم يكن ما قاله مهما، فقد تحدث في الوقت الضائع حديثا ضاع وسط زحام الصراخ، لقد ولى زمن صوت الخطيب الواحد، حتى المثقفين المخضرمين يتكئون اليوم على جموع الشباب لتوصيل رؤاهم القديمة. أصبح الشباب يتململون وهم يستمعون للخطب المفوهة، حتى لو كانت من فم رئيس دولتهم، يريدون أن يعرفوا ما عنده على عجل، لم تعد الآذان مصغية للكلام، تحولت أمزجة الشباب وتحولت اهتماماتهم، ولو جاء جمال عبد الناصر المعروف بفصاحته ليلقي خطابا يحمل نفس اللغة التي كان الناس يلتفون حولها سابقا، لن يجد من يصغي إليه لا أذنا ولا عقلا ولا قلبا، وسيعتبرون خطابه كلاما فارغا، بعد أن كان ممتلئا بالجاذبية.

الشباب قوة بناء هائلة، إن تعطلت لأسباب غير مقنعة لهم شخصيا، فسيتحولون إلى قوة هدم، والتعامل معهم بسذاجة كما حصل مع الرئيسين السابقين التونسي والمصري، أو القائد الليبي المترنح، بتقديم وعود بتغييرات وإصلاحات قريبة لن يكون مجديا، لأن الثقة بين جمهور الشباب والسلطة انعدمت، كما أن العمر الزمني الطويل الذي كان متاحا للرئيس إبان حكمه أصبح حجة عليه.

الشباب ضاقوا ذرعا بالفساد المالي والإداري المتفشي في أركان النظام الذي طال حياتهم ومستقبلهم، يطالبون بوقف فوري لممارسة الفساد وموقفا واضحا ضد رموزه، وسيستعينون بأدوات الإعلام الجديد بلا تردد لفضح ممارسات النافذين من أصحاب السلطة.

إلا أنني أعتقد أن يوم الجمعة أداة إعلامية لا تقل خطورة عن الـ«فيسبوك» و«تويتر»، لأن الحكمة من مشروعيته انحرفت عن طريقها الأصلي الذي كان يستهدف الوعظ الديني والإرشاد الاجتماعي ليصبح وسيلة لتنفيس النيات البريئة عن احتقانها، أو وسيلة لتحقيق النوايا الخبيثة لأهدافها السياسية، حتى من هؤلاء الذين قضوا عمرهم مناوئين للإسلام السياسي.

هذه صورة نموذجية للقيم حينما تمتطي ظهر الفوضى.

* أكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود

[email protected]