حاسب: ح يغيروا الجرار

TT

الثورة في مصر هي بمثابة قطار يجر الوطن من حالة العالم الثالث (وهم اللفظ المؤدب الذي يطلقه الغرب على الدول المتخلفة) إلى القرن الحادي والعشرين، على الأقل هذا ما يتمناه المصريون الذين قبلوا بدفع فاتورة ثورة 25 يناير 2011. ومع ذلك، كواحد ممن اعتادوا ركوب قطار الصعيد - القاهرة أثناء الدراسة، كنت دائما ما تقلقني لحظة تغيير جرار القطار، أو الإعلان عن تغيير الجرار، فكما كان في حوادث القطارات القريبة في سوهاج والمنيا وبني سويف، كانت مجرد الإشارة إلى تغيير الجرار تعني أن القطار قد داس أناسا أو بهائم أو أن حريقا في طريقه إلى الحدوث، والجميع يعرف هذه الحوادث على مدى الأعوام الماضية في مصر، وربما لذلك أتوا لنا بوزير مواصلات سابق، ليرأس الوزارة، لأن المسألة كلها مسألة الجرار، والجرار في اللهجة المصرية يعني المحرك، ولا يعني المعاني الأخرى التي يتخذها في بعض الدول العربية. في مصر كلما كانت هناك أزمة، كان الإعلان عن تغيير الجرار بداية حل كارثي. ولدي إحساس اليوم أن عملية تغيير لجرار الثورة تحدث في محطة مصر، في القاهرة. الثورة كانت ماشية زي الفل، لكن لحظة تغيير الجرار هذه مقلقة وتوحي بشيء أقرب إلى الكارثة.

قلت في السابق إن هذه كهرباء قوية انطلقت في كل مصر تصلح فقط لإنارة الوطن كله. وحذرت من يريدون ركوب الموجة من أن أي توصيلة غير قانونية ستؤدي إلى أن يصعقهم التيار، خصوصا أن الذين يحاولون لا تقوى كابلات توصيلاتهم ولمباتهم على استيعاب التيار. كتبت ليلة رحيل مبارك عن السلطة محذرا، تحسبا من الذين سوف يحاولون ركوب قطار الثورة بشكل غير قانوني، ومن دون أن يكونوا قد قطعوا تذاكر أو دفعوا ثمن ركوبهم من خلال وجودهم في الميدان أو في الشوارع أيام الثورة. لكن هذا كان منذ أسابيع، أما اليوم فإننا نشهد عملية أكثر خطورة، لم ترد على ذهني، وهي أن قطار الثورة السريع وبعد توقفه في القاهرة لفترة تجرى له عملية تغيير الجرار، فهناك محاولات لتوصيل جرار غير جرار الثورة لقطار القوى الثورية المخلصة، فقد بدأ الجماعة في فك الجرار الثوري، وحل محله جرار سوف يؤدي حتما إلى وجود مكثف في أجهزة الدولة لمناهضي الثورة مما سيأخذ القطار في اتجاه معاكس.

مع بداية قدوم العمال من الخليج في الثمانينات، كان معظمهم يأتي بتحويشة العمر ويشتري تاكسيا قديما ثم يركب له جهازا عجيبا يأتون به معهم من بلاد الخليج يصدر صوتا غريبا عندما تعود السيارة إلى الخلف، قائلا بصوت صيني تقريبا: «احترس.. احترس.. السيارة ترجع إلى الخلف»، ونحن في مصر لا نقول السيارة، بل نقول العربية، وكانت كلمة السيارة غريبة علينا، لكن هذا هو الصوت الذي بدأ يصل إلى مسامعي من بعيد وأنا أتابع محاولات القوى والأفراد في مصر لركوب الثورة، صوت يقول: «احترس.. الثورة تعود إلى الخلف». بالطبع الثورة لا تعود إلى الخلف، ولكن يبدو أن الجماعة ركبوا الجرار الجديد لآخر عربة في قطار الثورة، ويبدو أن الجرار يريد أن يأخذ الثورة إلى اتجاه آخر غير تغيير الدستور القديم وبعيدا عن بداية حياة سياسية جديدة.

الثورة في مصر ومسألة الانتقال إلى الديمقراطية، هما مسألتان ليستا بسيطتين، سيتغير فيهما الجرار أكثر من مرة، وربما تنقلب عربة أو عربتان من القطار، فالتحول إلى الديمقراطية لن يكون سهلا أو بسيطا، وعلى من أطلقوا الثورة أو من يناهضونها أن يدركوا أن القطار قد ترك المحطة. المهم أن يكون عند الجماعة فرامل تعمل، ومعروف اتجاه القطار ومحطته الأخيرة.. إما أن نسير من الأقصر حتى بني سويف ثم نعود قبل أن نصل القاهرة، أو نغير الجرار في القاهرة ونعود إلى الإسكندرية إذا كان القطار قادما من الناحية الأخرى، مسألة تغيير الجرار هذه أخطر بكثير من سرقة الثورة أو جزء منها، هي عملية أيضا أكثر خطورة من الثورة المضادة التي يتحدث عنها المصريون اليوم. المشكلة الكبرى التي سوف تعاني منها مصر خلال السنوات القادمة ليست تصفية الحسابات أو المحاكمات، ولكن الخطر يكمن في الحركة المستمرة لتغيير الجرار.