حجازية العينين.. رومية الكفل

TT

لست من عشاق الحفلات والجلسات الخاصة، إلا إذا أرغمت عليها إرغاما لأمر ما، وهذا هو ما حصل لي قبل عدة أيام؛ إذ أتاني أحدهم وأخذني بسيارته في ليل أظلم، وعندما طالت المسافة لا أدري لماذا داخلني الخوف وتخيلت أنني قد اختطفت، وخطر في بالي فعلا أن أطلب منه التوقف لأنزل وآخذ أول تاكسي، لكنني قبل أن أبدي له رغبتي تلك وإذا به يوقف سيارته بجانب إحدى الاستراحات قائلا لي: تفضل.

وتفضلت أتبعه بريبة وتوجس أقدم رجلا وأؤخر أخرى، ودلفنا إلى حوش فسيح، ومنه فتح الباب على جو عابق بدخان السجائر والمعسلات والأصوات العالية والتصفيق مما لا يقل عن عشرين رجلا, بعضهم جالس على الكراسي وأغلبهم مفترش الأرض، وأمامهم مغنٍّ هزيل يعزف على العود ويجعر بصوته المزعج أمام الميكروفون الذي زاد إزعاجه إزعاجا، أشار لي رفيقي أن أجلس على الأرض ففعلت، فيما انطلق هو رأسا إلى الحلبة ليرقص مع الراقصين، فتأكدت ساعتها أنني قد تورطت دون أن يسمي علي أحد. وأذكر بعض الكلمات التي كان يرددها ذلك المطرب التعيس، منها على سبيل المثال: حجازية العينين، نجدية الحشا، عراقية الأطراف، رومية الكفل.

لا أريد أن أطيل عليكم ولا أحكي لكم ما حصل في تلك (الليلة الليلاء)؛ لأنني أخشى الفضيحة، فالمجالس، مثلما يقولون، أمانات، المهم أنه أعادني إلى منزلي سالما غير غانم، وأذان الفجر يردد على مسامعنا: الله أكبر.

حمدت ربي كثيرا، وظلت كلمة (الكفل) عالقة بذهني حتى بعد أن صحوت من النوم، فنزلت إلى مكتبي وفتحت المنجد لأبحث عن معناها، وورد فيه: أن الكفل هو العجز أو الردف سواء للإنسان أو للحيوان، عندها ارتحت لأنني قد تعلمت شيئا جديدا كنت أجهله؛ لأنني كنت أعتقد أن الكفل هو الكفن، وشتان ما بينهما.

بعدها عندما حكيت لأحدهم عن معلومتي تلك، وإذا به (بروفسور) في علم الأكفال دون أن أدري، وقال لي:

ألم تلاحظ أن بعض الأفريقيات أكفالهن ضخمة؟! أجبته: فعلا، ولكن لماذا، يرعاك الله؟!

قال: إن ذلك يرجع إلى التربية؛ فالمرأة هناك لا تكاد تبلغ السادسة من عمرها حتى تأخذ أمها طفلها الصغير وتشده بالقماط - أي القماش - على ظهرها طوال النهار، ثم لا يزال هذا هو عملها حتى يكبر الطفل، فتهتم عندئذ بأشغال بيتها وتحصيل معاشها، فتحمل طبقا على رأسها تضع فيه مواد تجارتها وتذهب بها إلى الساحة العمومية لبيعها، وفي حملها لهذا الطبق الثقيل يكون رأسها مستقيما وصدرها و(كفلها) بارزين اضطرارا لتثبيت الطبق على رأسها، وغالبا ما يكون الطفل أيضا على ظهرها، وهكذا ينمو صدرها وكفلها ويصبحان بارزين.

عندها شكرته على معلوماته الحيوية التي ثقفني بها، قائلا له: صحيح علم الإنسان ما لم يعلم، وبينما كنت أتناول معه أقداح الشاي، وإذا بابنه الذي لا يزيد عمره على الثماني سنوات يدخل علينا حاملا حقيبته على ظهره عائدا من المدرسة، فقال له مشيرا إلي: سلم يا ولد على عمك.. فتوجه لي الطفل مسلما بكل أدب، فربتت على رأسه قائلا: ما شاء الله، ما شاء الله.

غير أن ما لفت نظري أن الطفل كانت بشرته داكنة عكس والده، فعرفت دون أن يقول لي هو ذلك، أن مزاجه (كانوني)، وأنه متزوج من أفريقية. والحق يقال: إنه عرف كيف يختار، ودعوت له وعائلته بالخير والسعادة.

ملاحظة لابد منها: إنه بعد فترة من التأمل والمعاناة، اكتشفت أن ضخامة الكفل من عدمها ليست وقفا على جنس أو لون معين، وأكبر دلالة أن الشاعر تغزل بالكفل (الرومي).

[email protected]