بين حدودين

TT

للحالة البشرية دائما عدة وجوه.. كل يوم منذ 17 فبراير (شباط) يتأمل العالم، حزينا، كيف يتصرف الإنسان حيال الإنسان. أقصى حالات الهمجية وأقصى حالات المساعدة. عشرات الآلاف يتدفقون على حدود مصر وحدود تونس، في طوابير يومية، خائفة، مذعورة، جائعة، عطشى، مجردة من أموالها، وأحيانا من جنى حياتها، هاربة من بطش طائرات السوخوي والدبابات، ولا أمل لها سوى المساعدات الخيرية.

ممن؟ من بلدين تصادف أنهما في حالة بلبلة وارتباك ومرحلة انتقالية صعبة. ألقى القذافي بمآسي النازحين من الجحيم على مصر وتونس في الوقت الذي يحتاج فيه البلدان إلى كل لحظة من أجل مواجهة تحديات التغيير. ولا خيار أمام الهاربين: إما رعب الجحيم، في بلد يقصف أهله من الجو، وإما ذل التشرد الطويل، في انتظار الوصول إلى حيث يوزع الخبز الجاف والمياه على مجموعات بشرية كانت قد ذهبت إلى ليبيا تطلب العمل.

في هذا المشهد المؤلم يبرز العامل المصري المهاجر من جديد كشخصية درامية تنقل مأساتها معها؛ فقد خرج المصريون من العراق في الماضي جثثا في نعوش خشبية، واليوم يخرجون هربا من فظاظة أخرى، في طوابير، منها ما يتجه شرقا، ومنها ما يتجه غربا، طلبا للأمان، بعدما كانوا يظنون، كما في العراق، أنهم في بلد أشبه ببلدهم. بل إن عراق صدام حسين عرض عليهم الجنسية والبقاء الدائم من أجل إحياء أراضيه الزراعية وإغناء مواسمه، ثم راح يعاقبهم بسبب موقف حكومتهم السياسي.

لا أحد يعرف أي عبء سوف يشكله العائدون إلى مصر، وأي ضرر سوف يلحق بليبيا بسبب الهجرة الجماعية للعمال والفنيين، ولا أحد يعرف حجم التداعيات المأساوية وعدد المتأثرين بها من عرب وآخرين.. لكن الذي يعرفه الجميع أن تنكيل النظام بالبلد سوف يترك آثاره على مدى سنين؛ فهو يكرر مأساة العراق صفحةً صفحة، وهو يحاول أن ينقل الثورة من انتفاضة على 42 عاما من القسوة إلى حرب أهلية، بينما يصر الثوار في الشرق، في كل أدبياتهم، على اعتبار طرابلس عاصمة الدولة الموحدة.

نزل الليبيون إلى الشوارع بأعلام الاستقلال، فنزل عليهم بطائرات السوخوي والدبابات، معلنا: «أنا ليس لي سوى بندقيتي». وما زال باقيا يخوض حربه الوحيدة (باستثناء حرب تشاد)؛ لأن ليس في إمكانه الاستقالة.. فكيف يستقيل وهو بلا منصب ولا راتب ولا مال؟ باق هو حتى «آخر رجل وامرأة» وكما أن أحدا لا يعرف بأي صفة يفعل ذلك. ولا من الذي يعطي الأوامر للطيارين (ليبيين أو غيرهم) بقصف الناس بالسوخوي.