هل تكسر القبيلة موجة الثورة؟

TT

انهيار نظام مبارك في مصر استغرق ثمانية عشر يوما، ونهاية بن علي في تونس جاءت بعد شهر. أما في حالات ليبيا واليمن والبحرين فهي دول ما زالت تنزف، والتفسير الوحيد لطول مدة بقاء هذه الأنظمة في الحالات الثلاث، مع أنها أضعف - من ناحية نظام الدولة - من مصر وتونس، هو أن تكوين تلك الدول هو تكوين قبلي في المقام الأول، أو قبلي طائفي في حالة البحرين، وهي حالات مرشحة لما يمكن تسميته بالصراع الممتد أكثر من كونها دولا تحسم فيها الثورة المستهدف منها وهو تغيير النظام.

الأطروحة التي أعرضها أمامكم هنا، هي أن زمن بناء الدولة يقترب من زمن تفكيكها، وكلما كانت الدولة أكثر تطورا في بنيتها المؤسساتية الحديثة سهّل ذلك للمد الثوري تحقيق أهدافه، طبعا في حالة الدول الغربية القائمة على المؤسسات ينحسر المد الثوري، لأن هذه المؤسسات تستوعب الاحتجاجات السياسية والاجتماعية، وذلك لأن شرايين هذه الدول في الديمقراطيات مفتوحة دائما لضخ دماء جديدة فيها، أما في الأنظمة المغلقة فالكولسترول في شرايين الدولة، المتمثل في الفساد والاستبداد وتضييق الحريات، يؤدي إلى ما شهدناه من انفجار في مصر وتونس.

أما الدول ذات البنى التقليدية من قبائل وطوائف، فإن تغيير نظامها يستغرق وقتا أطول قد يصل إلى سنوات، يؤدي إلى تفكيك الدولة وقد لا يؤدي إلى تغيير النظام. ولنا في السودان وفي يمن الستينات والسبعينات وحتى التسعينات مثال يستحق الدراسة. إذ كان من الأسهل على المتمردين في السودان من الجيش الشعبي وجماعة الجنوب بقيادة جون قرنق ومن تلاه من أمثال سلفا كير، تفكيك السودان إلى شمال وجنوب، وربما إلى شمال وجنوب زائد دارفور، كبديل لتغيير نظام البشير في الخرطوم. استعصى تغيير النظام على السودانيين لأننا نتحدث عن بلد قبلي وجهوي متعدد اللهجات واللغات والثقافات، وهنا يكون انشطار الدولة أسهل من تغيير النظام، أي أنه أقل كلفة وضحايا أن تنشطر الدولة بدل أن يدخل المجتمع القبلي أو الطائفي في حرب أهلية لتغيير نظامه، وهذا ينطبق على الحروب الأهلية في لبنان كمجتمع إقطاع سياسي طائفي. اليمن في السابق أيضا انشطرت إلى دولة في الشمال وأخرى في الجنوب، لأنه لم تكن هناك غلبة لقبيلة أو طائفة بعينها لتغيير النظام، فلا الحوثيون يستطيعون تغيير النظام، ولا الجنوبيون أيضا، ولا الشوافع يستطيعون كسر شوكة الزيود، كما أن العكس صحيح أيضا.

إذن لا بد أن يكون لدينا فهم واضح لما ستسفر عنه الثورة في كل من اليمن والبحرين وليبيا، ونتائج هذه الثورات. فأحسن سيناريو لثورة اليمن هو انشطار البلد إلى ثلاث مناطق وليس كما كان الحال في السابق إلى منطقتين، ربما نرى دولة في صنعاء، وأخرى في صعدة، وثالثة جنوبية في عدن، هذا هو أحسن سيناريو. أما السيناريو السيئ فقل فيه ما شئت من إمارات إسلامية وإمامة وحكم قبلي.. إلخ. أما ليبيا، فيمكن أن تندمل جراحها كدولة، لكن ليس قبل خمسة أعوام من الآن، خصوصا أننا أمام قيادة تجد في الثورة نوعا من التسلية. فالقذافي الذي شاخ نظامه قد وصل إلى حالة من الملل السياسي. كان الرجل يسلي نفسه بالوحدات المختلفة، مرة وحدة مع مصر، وأخرى مع مصر وسورية، وثالثة مع العراق، ورابعة مع العرب، وخامسة مع الأفارقة. القذافي يصيبه السأم إن لم يكن هناك مشروع يشغله، ومن يلاحظ لهجته وملامحه وهو يدعو إلى الثورة يكتشف أن الرجل مبسوط ومنتعش بالحرب مع شعبه، لأنه ككائن سياسي ثوري يحيا على المشكلات، ويصيبه الملل في فترات السلم والنماء. الثورة أطالت في عمر نظام القذافي الرجل، لا الدولة، لأنها أمدته بما يريد من «إكسايتمنت»، أو نشوة ثورية. لذا نحن أمام حرب ممتدة على غرار السودان، وليبيا لن تستقر سريعا.

بقيت البحرين التي هي سؤال طائفي في المقام الأول، يحاول أن يتغطى بغطاء مدني، لكن الطائفية ترشح كل يوم في المظاهرات ورد فعل الحكم عليها. ورغم صغر البحرين كمملكة، فإن الأمر يتعلق بإصلاح النظام لا تغييره، أما إذا أصر القوم على تغييره فسنكون في حالة الذيل الذي يحرك الكلب وليس العكس، أي أن إيران الشيعية قد تسقط قبل أن يسقط النظام في البحرين. ومع ذلك حتى هذا الإصلاح والاحتجاجات عليه ستأخذ وقتا طويلا، لذا يجب على المراقبين أن يتأهبوا ويعدوا أنفسهم لصراع ممتد في اليمن وليبيا والبحرين وكل الدول القبلية في المنطقة..

ومن هنا يبدو لي أن الثورة قد تنكسر على عتبة القبيلة والطائفة، أو تأخذ شكلا آخر لا نعرفه. هذا ما تؤكده الوقائع على الأرض في المجتمعات القبلية التي تأخذ وقتا أكثر في الاحتجاجات، ومن المستبعد أن تؤدي إلى النتائج التي أدت إليها في مصر وتونس.