طواحين لا تحركها إلا رياح التغيير

TT

قال الثائر خالد الذكر أرنست تشي غيفارا: «لا يقوم بالثورة إلا مغامر ولا يستغلها إلا انتهازي».

تذكرت هذا القول وأنا أتابع التحليلات الصادرة من الغرب اليوم حول اندلاع ثورات التغيير العربية، فلاحظت أن أكثر ما لفت انتباه المحللين الاستراتيجيين في الغرب هو التغيير المفاجئ والجذري الذي طرأ على مزاج العرب فأصبحوا لا يطيقون الانتظار أكثر كي تتغير الأنظمة والحكام فهم يطالبون بالتغيير الآن وفي هذه اللحظة بالذات. فمن ناحية وبعد صدمة واندهاش وتردد إزاء ثورات الحرية في الوطن العربي الموجهة ضد الاستبداد والفقر والبطالة والفساد واحتكار النخب القريبة من الحكام لعوائد التنمية، استجمعت القوى الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، زمام المبادرة من جديد فأخذت تفتح من جديد شهيتها للتدخل العسكري في بلدان كانت «صديقة» و«مستقرة» فإذا بها «مضطربة» كما يطلق عليها الإعلام الغربي، وذلك خوفا على تدفق النفط الرخيص وحماية للتوسع الإسرائيلي.

فاليوم نسمع تهديدا باستخدام السفن الحربية وتبني المواقف «الحازمة» لدعم قوى التغيير في المجتمعات العربية، وأخذت الدوائر السياسية والمخابراتية الغربية تمدّ خيوطها للتواصل مع مؤشرات التغيير، وتدرس آليات تجمع المظاهرات وانطلاقها وعملها. والخوف كل الخوف على هذه النهضة التاريخية للأمة العربية من عودة هذه القوى المعادية المعروفة بقمعها لنهضة الأمة في بداية القرن العشرين، والخوف كل الخوف من قيامها بدورها المعهود في تخريب كل تغيير إيجابي عربي، أو تشويهه أو محاصرته أو حرفه عن مساره، فيما صمتت وتصمت هذه القوى ذاتها عن أبشع قمع إسرائيلي متواصل منذ أكثر من ستين عاما لحرية الفلسطينيين وحقوقهم، وهي التي أيدت لحّد اليوم أنظمة التمزق والفساد والاستبداد التي أصبحت كالطواحين الصدئة لا تحركها إلا رياح الثورة.

إن هذه القوى لا ترى شعبا عربيا ثائرا من أجل بناء مجتمع عربي حر وديمقراطي مزدهر ينعم بخيرات بلاده الوفيرة، بل ترى فقط قطعة جغرافية حددت حدودها اتفاقية سايكس بيكو، وتعمد هذه القوى إلى الحفاظ على التقسيمات الأفضل لمصالحها وتوريد النفط والغاز العربيين اللذين لا تقوم الحضارة الغربية من دونهما لها بأبخس الأثمان وحماية ربيبتها «إسرائيل» من المحاسبة على جريمة العصر بحرمانها شعب فلسطين من الحرية وتدميرها الديمقراطية الفتية.

لم تهتم هذه القوى يوما بما تعانيه شعوبنا العربية في بلدانها من فقر وقمع واحتلال واستبداد وفساد. والخوف هنا، هو أن يرحل الطغاة «أصدقاء» إسرائيل بالأمس ويأتي من هم أسوأ منهم، وتتغير الحكومات لتأتي حكومات أكثر خنوعا وتبعية. وتندفع من أجل تحقيق ذلك اليوم كل من إسرائيل والولايات المتحدة ليس فقط لاستغلال الثورات وإنما أيضا للتخلص من عناصر المقاومة لإرادتها وسياستها الشرق أوسطية القائمة على حماية التوسع الإسرائيلي ونهب ثرواتنا تحت ضغط الهيمنة العسكرية الإسرائيلية المدججة بالسلاح النووي، ولدفن ما تسميه بـ«الاضطرابات» تندفع الولايات المتحدة بتزويد الأنظمة الموالية بالنصائح والخبرات والدعم اللازم من أجل استمرار أنظمة الاستبداد والفساد، ولكن بأشكال جديدة أكثر حداثة، وهي بذلك خبيرة ولديها موارد ضخمة ومصالح كبيرة.

ولكن كل هذا الاندفاع الأميركي للتدخل الانتهازي التخريبي الذي تخطط له وتموله خاصة ضد أنظمة معادية لها، لا يبرر ادعاء البعض أن هذه الثورات الشعبية ضد الفساد والبطالة واحتكار السلطة مخططة ومدبرة من الولايات المتحدة وإسرائيل أو بريطانيا وما إلى ذلك من معزوفة قديمة لا تصلح هنا، كما لا تصلح للتعامل مع نقاط ضعف قاتلة لأنظمة عهد أصبح بائدا لأنها رفضت التغيير. فالسبب المباشر لهذه الثورات داخلي يتعلق بجمود الأنظمة الموروثة من عهود المماليك التي يتعامل فيها الحاكم مع «الرعية» وابتعاد الحكام عن نبض الجماهير، واستبدادهم بالرأي، وتمترسهم بالقوالب السياسية، هذه الأنظمة التي نراها حتى اليوم غير قادرة على الإبداع، فكلها تقف معاندة لحركة الجماهير، وهي ما زالت تتعامل مع شعوبها من أعالي بروجها الهشة عندما تتحرك الجماهير. فنراها - رغم هذه الثورات - تصر على حرمان شعوبها من المشاركة الفعالة في صنع القرار السياسي والاقتصادي المتعلق بتفاصيل حياتها اليومية مع أنها ما تزال قادرة على إطلاق مبادرات سريعة لبناء المؤسسات الدستورية الديمقراطية التشاركية التي تضمن حرية الرأي والإعلام، والقضاء المستقل، وسيادة القانون، الذي يضمن هذه الحريات والحقوق لجميع المواطنين، وليس فقط لنخبة ضئيلة تستولي على المليارات وتهربها للمصارف الغربية، والذي يحاسب الكبير قبل الصغير عند التورط بالفساد، والجرائم، والمخالفات، والانتهاكات، والذي يضمن توزيع الثروات بعدالة، ويحاسب من يهربها إلى المصارف الأجنبية ويحرم شبابنا من عوائد التنمية.. لماذا نرى أزمة خروج العمالة الأجنبية من بلداننا أثناء الثورات فيما يتوسل خريجو جامعاتنا فرص العمل؟

وفي مراجعة سريعة لعام 2011 وما تخلله إلى حد الآن من ثورات كان يصعب تخيّلها في الربع الأخير من العام الماضي، نستطيع أن نقول أولا إن هذه الثورات قد كشفت اليوم أن سبب الفقر هو تهريب عوائد التنمية، وبطالة الشباب وهجرتهم من عالمنا العربي سببها الأساسي أن مئات المليارات العربية من الثروات ترقد في البنوك الأجنبية وتحرك الاقتصادات الغربية التي تتحكم في رقاب الشباب العربي هناك وتحصرهم في أسوأ الأحياء ولا تسمح لهم إلا بأسوأ وأدنى الوظائف. كما كشفت أنه في الوقت الذي تنهال فيه الأموال الصهيونية على فلسطين لشراء الأحياء العربية لا يقدم أحد من العرب شيئا للفلسطينيين الصامدين في أحياء القدس الشرقية أو المحاصرين في غزة وفي المدن الفلسطينية الأخرى وقراها، بينما تعود عوائد تلك المليارات العربية من البنوك الأجنبية لتستخدم في شراء اليهود للبيوت العربية، وهدم ما تبقى منها، وإقامة المستوطنات في مكانها لمستوطنين إرهابيين هدفهم اغتصاب الأرض وطرد السكان الأصليين من أرض أجدادهم. كما كشفت أيضا أن انهيار الجامعات حرم هذا الجيل من تربية وفرز كوادر قيادية مدربة على قيادة التحركات الاجتماعية. ولذلك نرى أن هذه الثورات لا تحسم لصالح أهداف التغيير الدستورية والسياسية رغم أنها مستمرة ومتابعة ومراقبة للتغييرات التدريجية، والخوف كل الخوف هو أن يخطفها ربّان خبير ويوجهها الوجهة المنافية لما تريده الجماهير.

كما كشفت أيضا نقطة ضعف تتمثل في أن تراجع الثقافة أدى إلى نقص مراكز التحليل والدراسات والأبحاث في العالم العربي، الأمر الذي تركنا مشاهدين فقط مع ناقلي أخبار وأصبح المحللون السياسيون والاجتماعيون والاقتصاديون عملة نادرة في العالم العربي بينما سخّر الغرب كل مراكز أبحاثه ومفكريه لأخذ السبق في التحليل والتأويل والتوجيه.

ولكننا اكتشفنا أيضا أن شعبنا العربي من محيطه إلى خليجه مرشح لأن يشعر بوحدة الألم والمصير والطموح ويتوق إلى أن توحد أواصر الحرية بين أبنائه بعد طول فرقة وتجزئة. وإذا كانت القوى المعادية للعرب قد وصفتهم طوال العقود الماضية بالإرهابيين والمتشددين والمتعصبين والخانعين لأنظمة القمع والفساد فإن هذه الثورات قد أظهرت للعالم برمته حيوية شعوبنا العربية وعشقها للحرية واستعدادها للموت من أجلها ضد الطغاة، محليين وأجانب، على حد سواء.

لقد برهنت هذه الثورة العربية أيضا، كما برهنت الثورة العربية المماثلة في العقد الأول من القرن العشرين، أن الخوف الغربي الأساسي هو من نيل العرب حريتهم، واسترداد مقدراتهم، والفخر بحضارتهم وتاريخهم، لأن اجتماع هذه العوامل سيحوّلهم إلى قوة اقتصادية وسياسية دولية يحسب لها أيما حساب.

إن الثورة العربية في بداية القرن الحادي والعشرين هي ثورة ضد الفساد والقمع وارتهان إرادة الحكام للأعداء، ولكنها أيضا ثورة لاسترداد مقدرات الذات، وفي مقدمتها العنفوان القومي، والكبرياء الوطنية، واسترداد الثروات، واسترداد لوحدة الجغرافيا والتاريخ. إنها ثورة تريد إعادة كتابة التاريخ العربي المعاصر بعد أن كتبه «الحلفاء المحتلون» حين كانوا يسيطرون على الجغرافيا العربية فيمزقونها، ويستولون على التاريخ العربي فلا نرى منه غير الفتنة، أي إنها ثورة تحرر من ربقة الأعداء وأعوانهم وآثارهم، ولذلك فإن نتائج انتصارها ستمتد إلى المستقبل، ولكن الوعي الثوري، والحذر من مخططات الأعداء، والمتابعة الحثيثة لفرض المطالب كلها مطلوبة، لضمان عدم انحراف مسار الثورة بفعل فاعل «مجهول» معروف، ومن أجل ضمان عدم اختطافها من قبل الطامعين في ثرواتنا والمعادين لطموحات وحقوق وحرية شعوبنا، والسلام على الشهداء والثوار الذين فتحوا طريق مستقبل أفضل لهذه الأمة بعيدا عن التبعية بمقدار بعده عن الاستبداد وكبت الحريات.