كيف يبدو المستقبل الاقتصادي للمملكة العربية السعودية؟

TT

بدأت الأسواق العالمية تتحسّب لانتقال العدوى من شمال أفريقيا إلى بعض الاقتصادات الخليجية، لا سيما البحرين والمملكة العربية السعودية. ومع أنّ إمكانية انتقال هذه العدوى إلى المملكة ما زالت ضئيلة، رفعت هذه الأسواق أسعار فائدة سندات تأمين الديون السعودية ضدّ التخلف عن السداد. وفي هذا السياق، يُمثل مستقبل البحرين مؤشرا مهما لكنّ الغموض ما زال يلف النتائج المحتملة للحراك السياسي هناك.

تتمثّل أهم الدروس المستلهمة من الأزمة المالية الأخيرة بحقيقةِ أنّ الأسواق العالمية قد تخطئ. وخلال الأزمة المصرية الأخيرة، قفزت أسعار النفط بسبب مخاوف هذه الأسواق من احتمال توقف شحنات النفط التي تُنقل عبر قناة السويس. كما رجّحت هذه الأسواق مؤخرا إمكانية انتقال العدوى من شمال أفريقيا إلى البحرين، بشكل أساسي. ورغم صعوبة التنبّؤ بالنتائج السياسية للحراك الذي تشهده البحرين، بدأت الأسواق العالمية تتحسّب أيضا لانتقال عدوى هذه النتائج المجهولة إلى المملكة العربية السعودية المجاورة. وبعيدا عن النتائج المستقبلية للحراك الدائر في البحرين، نؤكّد على أنّ وضع المملكة العربية السعودية مستقر ويدعو للاطمئنان. إذ نستبعد تماما إمكانية تعثّر إنتاج النفط أو احتمال حدوث أي اضطرابات واسعة هناك في المستقبل المنظور. وفي الحقيقة، تميل الأسواق العالمية إلى عدم التمييز بين الاقتصادات الخليجية خلال الأزمات. فكما رأينا إبّان أزمة ديون دبي عام 2009، رُفعت أسعار فائدة سندات تأمين الديون ضدّ التخلف عن السداد بالنسبة لاقتصادات الخليج كافّة. واستغرقت الأسواق العالمية بعض الوقت لإعادة التمييز بين هذه الاقتصادات.

إنّ قدرة المملكة على تنفيذ سياسات إنفاقية فاعلة حقيقةٌ لا يرقى إليها شك، خصوصا في المجالات التي تكتسي أهمية اجتماعية خاصّة. ومع أنّ ميزانية العام الحالي هي الأكبر في تاريخ المملكة، كشف الملك عبد الله مؤخرا عن مكرمة قُدّرت قيمتها بستة وثلاثين مليار دولار أميركي (أي ما يُعادل 8.3% من إجمالي الناتج المحلي السعودي في العام الماضي). وتهدف هذه المكرمة إلى دعم الإسكان والتعليم والرعاية الاجتماعية، بالإضافة إلى دعم المواطنين بصورة مباشرة من خلال معونات البطالة الجديدة التي ترمي إلى مساعدة الشباب السعودي في مواجهة معدلات البطالة التي تزيد عن 10%، وتعزيز شبكات الأمان والضمان الاجتماعيين التي تدعم المواطنين ذوي الدخل المحدود، بشكل أساسي، فضلا عن تخصيص مبالغ ضخمة لشطب قروض المتوفّين والسجناء. كما تهدف هذه المكرمة، التي جاءت في إطار تسعة عشر مرسوما ملكيا، إلى دعم الجهود المبذولة لإيجاد فرص عمل جديدة وتسريع عملية إنجاز المشاريع السكنية وزيادة الاعتمادات المخصصة لتمويل التعليم، ودعم الجمعيات الخيرية والنوادي الثقافية والرياضية وجمعيات المحترفين.

علاوة على ذلك، تستطيع المملكة تنفيذ سياسات إنفاقية مماثلة من دون الاستعانة بأي تمويل داخلي أو خارجي. ففي يناير (كانون الثاني) 2011، بلغ صافي الأصول الخارجية لمؤسسة النقد العربي السعودي 444.8 مليار دولار أميركي (102% من إجمالي الناتج المحلي للمملكة عام 2010)، الأمر الذي يوفّر للمملكة احتياطيات مالية ضخمة. وستُغطّى المكرمة التي أعلن عنها الملك عبد الله في شهر فبراير (شباط) من هذه الاحتياطيات. ومن المتوقّع أنْ تُسجّل المملكة فائضا مزدوجا (في الميزانية العامة والحساب الجاري) لأنّ أسعار النفط مرشّحة لمزيد من الارتفاع. لذا، تستطيع المملكة الاعتماد على مواردها الذاتية لتمويل أي برنامج إنفاقي طارئ في المديين القريب والمتوسط. بالتالي، نستبعد حدوث أي احتجاجات واسعة في المملكة لأنّ الإصلاحات الاقتصادية التي طالب بها المواطنون لم تقترن بالمطالبة بتغيير تركيبة القيادة السعودية. مع ذلك، ترحّب السعودية بأي تعديلات وزارية لأنها تمثّل مبادرة طيبة لترطيب الأجواء السياسية. في الوقت ذاته، لا تستطيع القيادة السعودية أنْ تشعر بالرضا عن الذات لأنّ أحداث الشرق الأوسط الكبير تتطلّب مزيدا من الإصلاحات. وينبغي على القيادة السعودية أنْ تراقب أحداث البحرين عن كثب لأنها قد تمثّل «مدخلا» لتحوّل المشهد السياسي الإقليمي.

لا شكّ في أنّ موجة الاضطرابات التي تجتاح الشرق الأوسط الكبير ستُواصل رفع فوائد سندات تأمين الديون الافتراضية السعودية؛ وقد تنخفض، في الوقت ذاته، أسعار فائدة القروض الممنوحة بالريال السعودي إنْ تصاعدت هذه الموجة. كما أنّ حدّة التوترات التي وقعت أو تقع في تونس ومصر والبحرين وليبيا واليمن دفعت معظم الأسواق العالمية، إلى التحسّب لأسوأ السيناريوهات المحتملة في باقي دول المنطقة. ومع أنّ التمييز بين الاقتصادات وإعادة تصنيفها أمرٌ حتمي، فإنه سيستغرق بعض الوقت. وستواصل أسواق الأسهم الإقليمية عكس الشعور بازدياد مخاطر الاستثمار في المنطقة.

ورغم الأدلة التي سُقناها حول الإمكانات المالية والسياسية التي تسمح للمملكة بتجاوز الأزمة الإقليمية الراهنة بسهولة، نعتقد أنّ الأسواق العالمية ستواصل رفع أسعار فائدة سندات تأمين الديون الافتراضية السعودية. ومع أنّ هذه الأسعار ارتفعت مؤخرا، فإنها لا تزال أدنى بكثير من المستويات التي سجّلتها إبّان أزمة ديون الشركتين السعوديتين الكبيرتين (شركة معن الصانع وشركة القصيبي) في عام 2009. وفي المدى القريب، قد تظلّ أسعار فائدة هذه السندات مرتفعةً وقد تسجّل ارتفاعات إضافية. ويكتسي دور المملكة الموازن لسوق النفط العالمية بالغ الأهمية بالنسبة للاقتصاد العالمي؛ إذ تتمتع المملكة حاليا بطاقة احتياطية لإنتاج النفط قدرها أربعة ملايين برميل يوميا. وخلال فترة زمنية وجيزة، تستطيع المملكة تزويد سوق النفط العالمية بهذه الكمية الإضافية التي تزيد عن ضعف حصة ليبيا الحالية من إنتاج النفط. علاوة على ذلك، نعتقد جازمين أنّ المنشآت النفطية السعودية لن تتعرّض لأي تهديد في المستقبل المنظور، مما يعني أنّ إنتاج النفط السعودي لن يتعثّر. لكنّ الأسواق العالمية قد تنظر إلى هذه المسألة بصورة مغايرة إنْ تصاعدت حدّة التوترات التي تشهدها منطقة الخليج.

ومن المتوقع أيضا أنْ تضطلع الولايات المتّحدة بدور فاعل في منطقة الخليج خلافا لحالتي تونس وليبيا، حيث ظلّ دورها محدودا بسبب تاريخ علاقاتها الدبلوماسية الضعيفة مع هذيْن البلديْن. وينبغي الانتظار لرؤية الدور الذي ستؤديه الولايات المتّحدة في البحرين في حال حدوث أي تغيير جوهري في مشهدها السياسي، لأن قاعدة الأسطول الخامس الأميركي تقع في البحرين. وفي الواقع، تنعدم الأدلة التي قد تدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ المملكة العربية السعودية قد تكون البلد الخليجي التالي، الذي قد يشهد اضطرابات داخلية وأعمال عنف ودعوات مطالبة بتغيير النظام. مع ذلك، نعتقد أنّ المملكة ستنفّذ سلسلة جديدة من الإصلاحات الاقتصادية المختلفة التي ستعود بالنفع على الجزء الأكبر من المجتمع السعودي. أما المصير النهائي لباقي دول الشرق الأوسط، فإنه لا يزال غامضا في المرحلة الراهنة.

* مدير عام وكبير الخبراء الاقتصاديين في البنك

السعودي الفرنسي