الاحتساب والكتاب!

TT

معرض الرياض الدولي للكتاب أصبح موعدا سنويا للسعوديين يتنفسون فيه الحرية الفكرية ويطّلعون على أحدث ما أنتج من قبل دور النشر العربية. سنويا هناك قفزة نوعية في الكم المعروض ومساحة المسموح بشكل عام. وإن كان هناك مد وجزر لا يزال موجودا في تبرير ما يتم التحفظ على عرضه في بعض الحالات، إلا أن المعرض يبقى مثالا ناجحا على تطور السعودية الفكري والحالة الحاصلة فيها وقدرتها على استيعاب الأفكار المختلفة بشكل حضاري، وذلك من خلال ما يعرض من عناوين والمناسبات والحوارات المصاحبة للمعرض والذي يتطور أسلوب تنظيمه بشكل واضح. واللافت أن هناك نشاطا واضحا وجريئا من دور نشر سعودية تمكنت من «كسر» حاجز عريض من المحظورات والدخول بشكل جريء في العديد من المواضيع الساخنة بأسلوب «أهل مكة أدرى بشعابها» بعد أن كان يتحدث الغير عن شؤونهم. هناك إصدارات لافتة من «طوى» و«المسبار» و«مدارك» و«جداول» تناولت مواضيع فقهية واجتماعية وسياسية وثقافية، بالإضافة إلى روايات مميزة وسير ذاتية لافتة لشخصيات معروفة. ولم تنس دور النشر اللبنانية الكبيرة مثل «الساقي» و«رياض الريس» و«الفارابي» و«المركز الثقافي العربي» وغيرها أن تصدر العناوين الخاصة بالشأن السعودي لتنال فرصة الانتشار في هذه المناسبة الأهم هذه السنة، وخصوصا بعد إلغاء معرض القاهرة للظروف السياسية الطارئة التي عصفت بمصر.

وكان من المفروض أن تكون كل هذه الأخبار الخاصة بالمعرض وضيوفه المميزين هم أبطال المناسبة، إلا أنه حدث اعتراض وتزاحم وحدّة من فئة قامت بإبداء تذمرها ورفضها للكثير من فعاليات المعرض وعناوين كتبه والتصوير التلفزيوني ووجود النساء والتيارات المخالفة، كل ذلك تحت الكلمة المطاطية (الاحتساب) وقاموا بعمل ذلك أمام وزير الثقافة والإعلام وقطعوا بث المحطة الثقافية التي كانت على الهواء مباشرة إضافة لمسلسل من الوعيد والتهديد بحق الموجودين، وقاموا بجولة على بعض الناشرين يحذرونهم من عرض بعض العناوين الموجودة بحجة مخالفتها للدين، وذهبوا للجناح الإيراني الذي كانت توجد فيه خطاطة تخط الآيات والعبر لمن يطلب وهي بكامل حجابها وطلبوا منها أن تغير لون الحجاب إلى اللون الأسود (وكأن للحجاب لونا ثابتا في الدين!). ما قيل بحق النساء من قبل المحتسبين يثير التعجب، فواحد يقول لزوج إحدى الحاضرات: «اطلب منها أن تغطي عينيها لأنها تثير الفتنة»، وآخر يقول: «العباءة ضيقة» وغيرها من عبارات النقد التي لو صدرت من رجل آخر (بغير الزي والشكل الذي كان عليه المحتسب) لتم الاعتراض عليه بأنه يتغزل ويعتدي على حرمات الآخرين، فأي رجل لن يقبل أن يقال ذلك بحق نسائه حتما وسيعتبره تعديا صارخا على حرماته.

ولا أعلم ما هي العلاقة بين حدة الصوت وغلظته وتقطيب الحاجبين على الجبين والتلويح بالسبابة وتقريبها من وجه المحتسب عليه، وبين فكرة الاحتساب، وهل «إتقان» كل ذلك سيزيد من جدارة الاحتساب وبالتالي رفع مصداقيتها بدلا من الالتزام بالأدب المحمدي - على صاحبه أفضل صلاة وأزكى سلام - والمجادلة بالتي هي أحسن وخفض الصوت وكظم الغيظ؟ وبعض المشاهد الأخرى من الاحتساب العشوائي أصابت بعض ضيوف المعرض؛ فها هو الناشر المغربي ينال نصيبه من «النصح» لأنه أسبل يديه في الصلاة، وتبسم الرجل وأجابه: ولكن المذهب المالكي الذي أنا عليه يجيز ذلك. وها هو الناشر التركي يلقى نصيبه من «النصح» هو الآخر لأنه لم يجهر بقول آمين بعد الفاتحة فيجيبه الرجل بعربية واضحة أنه على المذهب الحنفي وهذه هي القراءة المجازة، وثالث من حضرموت ينال نصيبه من النصح لأنه أجهر بالبسملة في الفاتحة فيجيبه الرجل أنه شافعي وهذا جائز.

مشاهد ثرية شهدها معرض الكتاب، ولكن خطف الأخبار منها الاحتساب المتشدد والمستهدف للمواقع الناعمة (معرض الكتاب ووزارة العمل مثلا) الغاية منه تسجيل نقاط وإبراز الحضور، متناسين أن الاختلاط الذي يتحدثون عنه موجود في كل سوبر ماركت وفي المطارات وفي الحرم المكي الشريف، ومن المهم القول إن المعرض لم يسجل أي حادثة تحرش أو معاكسة ومضايقة على الرغم من الحضور القياسي للمرأة والأسرة فيه. معرض الرياض للكتاب أصبح نقطة جذب اجتماعية وثقافية سعودية بامتياز، وما يحدث فيه مراحل نمو ونضج للمجتمع لا بد أن يمر بها.

[email protected]