«ف. ش» فضيلة وشرف!

TT

هل الأمن المصري ترك وثائق أمن الدولة عن طريق العمد بهدف أن سقوط النظام يعني سقوط الجميع معه، أم أن المتظاهرين حصلوا على أشياء ثمينة بالفعل بعد اقتحامهم لمقار أمن الدولة في مصر. الفضائح المنشورة على النت تخص رجال أعمال وصحافيين مما يجعل الفترة القادمة في مصر على الأقل أسيتنج (مثيرة ومشوقة وغنية)، لرجال ونساء صدعونا بالشرف والفضيلة على طريقة فيلم «درب الهوى»، الذي كان يتزعم فيه الباشا (حسن عابدين) حزب الفضيلة والشرف (ف. ش) وهو فيلم مثير أدعو الجميع لمشاهدته بعد الثورة المصرية، حيث يكتسب النص دلالات جديدة. الفضيلة والشرف التي كان يتبناها الحزب الوطني ومن تحلق حوله من رجال الصحافة والإعلام ورجال الأعمال، كله يجد نفسه ملقى على قارعة الطريق في وثائق أمن الدولة التي تباع على الرصيف بجنيهين للوثيقة.

ظني أن الفضيحة الكبرى تخص رجال «الأعمال» أكثر من الصحافة رغم أن الصحافة بعد هذه الوثائق ستكون قد خلعت آخر لباس داخلي كان يستر عورتها. لنكن واضحين، ومن دون الوثائق، في عهد مبارك لم يكن هناك رجال أعمال بمعنى البزنس وإنما كان رجال الأعمال في معظمهم واجهات لأناس في الحكم ولأجهزة. كانت «أعمالا». الأعمال في مخيلتي - كطفل تربى في الصعيد - أمر لم يكن قط مربوطا بالرجال، الأعمال من أمور النساء. وعلى ذكر المربوط، كانت فكرة الأعمال مربوطة بالأعمال السفلية من السحر والشعوذة، حيث يدعي بعض الرجال أنه «مربوط» فلا يستطيع التواصل الجسدي مع زوجته. وتسعى الأسرة وربما القرية عن بكرة أبيها لفك «العمل» الذي ربطه عند أهل العلم والمعرفة بالأمور السفلية. هذه هي الأعمال في مخيلة السواد الأعظم من الشعب المصري.

عمل سفلي، وتجمع الكلمة عند العوام بـ«العمولات» أو بالأعمال، وهما المفهومان اللذان سيطرا على العملية الاقتصادية في عهد مبارك. فكرة «الأعمال» التي سيطرت في عهد مبارك على عدد لا بأس به من رجال الأعمال في مصر هي الأعمال السفلية، فجزء كبير من نجاح هؤلاء يقوم على العمولات، والكلمة هنا تحمل المعنيين: تقاضي عمولة لتسيير عمل أو تسهيله عند الحكومة أو عند العميل الخارجي، أو أعمال أشبه بالشعوذة لا بفكرة «البزنس» في الغرب.

تكشف الويكيليكس المصرية علاقة خفية تربط رجال الأعمال بالحكومة أو بشركات خارجية، تنقصها الشفافية بشكل تام. كان المصريون لا يعرفون من أين أتى كثير من رجال الأعمال؟ وكيف ومتى أصبح هؤلاء هم المتحكمين في اقتصاد البلاد وأي طريق سلكوه للوصول إلى هذه الدرجة من الثروة والنفوذ؟ صورة رجل الأعمال في عهد مبارك كانت عليها علامات استفهام كثيرة، وكثير من الشعب يسأل عن بعض رجال الأعمال أسئلة من نوع: ما تاريخهم المهني في السوق؟ وما تاريخ شركاتهم؟ وما سمعتها؟ وما مصداقيتها محليا وإقليميا ودوليا؟ كل هذا بدأ يتكشف في بعض وثائق أمن الدولة.

حدس المصريين كان صحيحا إذن، إذ كان ينظر كثير من المواطنين الغلابة إلى الشركات التي كانت وما زالت تحتكر السوق المصرية اليوم بكثير من الريبة، فهي في نظره شركات لم تنم نموا طبيعيا، لم تبدأ صغيرة ومن ثم تطورت، هذه الشركات بدأت كبيرة وطنانة منذ يومها الأول، وراحت تتغول وتتعملق لتخلق فئة في المجتمع المصري تعيش «فوق الريح» بينما بدأت الطبقة الوسطى في الاختفاء والتلاشي. وهذا ما أوصلنا إلى الثورة، لا الثروة.

زادت اليوم فجوة الثقة بعد الوثائق بين المجتمع ورجال الأعمال، وبين المجتمع وكثير من الصحافيين و«الإعلاميين».

الثراء في مصر لم يحدث بطريقة تقنع المواطن المصري بأن هؤلاء رجال بزنس بالمعنى الغربي للكلمة، وليسوا رجال «أعمال» بمعنى السحر والشعوذة.

العلاقات السرية والصفقات المخفية، وأسماء في الواجهة تخفي أسماء أكبر في الخلف.. بعض رجال «الأعمال» (عملوا للحكومة عمل) والحكومة «كان معمول لها»، كانت حكومة ودولة تمشي بقوة السحر والربط والأحجبة والعمولات المدسوسة مع «كبايات» الشاي التي لا ترد. بدأت الخيوط تتضح بعد الكشف عن بعض وثائق أمن الدولة، ورجال الأعمال اليوم مرتبكون.

استيلاء المتظاهرين على بعض وثائق أمن الدولة، ذلك الجهاز الجبار المعروف في مصر بـ«اللهو الخفي» كشف بعض ممارسات رجال «الأعمال» في مصر مما يجعل «ويكيليكس» الشهيرة وصاحبها جوليان أسانج مجرد لعب عيال.