السير ضد الريح

TT

قال لي: ما رأيك أن نذهب معا لمشاهدة مسرحية صامتة؟! اعتقدت للوهلة الأولى أنه قد استخف بي وبعقلي وأراد أن (يتتريق) عليَّ، وفعلا امتعضت قليلا ولكنني سيطرت على أعصابي فقلت له مازحا ومتهكما: ليه هي المسرحية التي ذكرتها مخصوصة للصم والبكم؟!

فقال: إنني أعذرك على سؤالك واستغرابك هذا، ولكن عليك أن تعلم أن جميع المتفرجين لا يقل سمعهم ونطقهم وأبصارهم وفهمهم وذكاؤهم عنك أنت إن لم يتفوقوا عليك، ونكون محظوظين لو وجدنا مقعدين شاغرين.

عندها شعرت بقليل من الخجل وعرفت يقينا أن ثقافتي في هذا المجال غير مكتملة؛ لهذا طلبت منه أن يعطيني فكرة، ولو قليلة، عن هذا الفن لكي أستوعبه، ولكي لا أبدو كذلك مثل (الأطرش في الزفة).

فقال: يحق لنا أن نطلق على هذا العصر الذي نعيشه اسم: عصر (الضوضاء)، فكل ما حولنا يضج بالأصوات: السيارات، الطيارات، القطارات، الميكروفونات، الراديو، السينما، التلفزيون، الشوارع الممتلئة بالبشر.. كلها تقتحم علينا أسماعنا من دون استئذان سواء شئنا هذا أم أبينا؛ لهذا نحن نحتاج إلى فترة (هدوء صامتة) لكي نرتب ونلتقط فيها أنفاسنا ولو بحيز صغير متقطع من الوقت.

إن التمثيل الصامت يا سيد مشعل هو فن عالمي يحطم حواجز اللغة ويخاطب الناس على مختلف أعمارهم وتجاربهم وجنسياتهم، بل إنه نور وانعكاس لأحلامهم الحقيقية وهزائمهم في هذا الوجود الذي لا يرحم ولا يجامل. عندما وصل إلى هذا الحد من الفلسفة الوجودية، اقتنعت بمنطقه نسبيا ووافقته على أن نذهب إلى هذه المسرحية المقترحة، والواقع يقال: إننا لم نستطع الحصول على مقعدين إلا بعد ثمانية أيام.

وفي اليوم المشهود ذُهلت عندما دخلت إلى القاعة وإذا هي مكتظة بالرجال والنساء وكذلك الأطفال، وبعد فترة قصيرة انفتحت الستارة على ممثل واحد فقط لا غير، وما أن شاهده الحضور حتى اجتاحت القاعة عاصفة من التصفيق، ثم ران صمت مطبق.

نسيت أن أذكر لكم أن المسرحية كان عنوانها: (السير ضد الريح).

وأخذ ذلك الممثل الموهوب يؤدي دوره ببراعة تحبس الأنفاس، ويمثل ويصعد الدرجات (ولا درجات)، ويركب البسكليت (ولا بسكليت)، ويشد الحبل (ولا حبل)، ويؤدي أدوار خمس عشرة شخصية مختلفة، من ممرضة، إلى بائع بالونات، إلى أطفال يلعبون، إلى رجل يسير مع كلبه، إلى امرأة عجوز تخيط ثوبا مطرزا (وليس على المسرح غيره)، اللهم إلا الشياطين الذين لا أشاهدهم.

إشارات صامتة وإيحاءات يتفاعل معها الجمهور، أحيانا بالضحك وأحيانا بالعبوس وأحيانا كثيرة بالتأمل.

من دون مبالغة جلست على الكرسي متسمرا أكثر من ساعتين، وكنت خلالها مشدوها ومعجبا، ولم أحس كيف مر الوقت سريعا! وما إن أغلقت الستارة وأضيئت الأنوار حتى انفجرت عاصفة مدوية من التصفيق أشد من الأولى.

وخرجت مع ذلك الرفيق لا أنبس ببنت شفة.

والغريب أن شخصية ذلك الممثل فيما بعد قد (تقمصتني) بشكل مزعج، وأصبحت كثير الصمت، وكثير الحركات، وكثير التفكير، إلى درجة أن الكثير ممن أعرفهم بدأوا ينفضون من حولي، ويستثقلون دمي، بل إن بعضهم أخذوا يقلدون حركاتي وكأنني (أراجوز) - وبيني وبينكم معهم حق.

[email protected]