ثورة ليبية مختلفة

TT

كانت الشكوى في الماضي أن العرب لا يثورون كثيرا حتى وإن كثرت انقلاباتهم، وإذا ثاروا فإن ثورتهم لا تبقى ثورة، وتتحول إلى حرب أهلية، أو تتفكك الدولة كليا، حتى باتت تعبيرات «الصوملة» و«اللبننة» من التعبيرات العالمية. ولكن الثورات كثرت هذه الأيام وباتت أنواعا مختلفة؛ وفي حين بدا أن الثورتين في تونس ومصر تفرزان نمطا عاما، ظهرت الثورة في ليبيا لكي يثار التساؤل بشأن خصوصية الثورة الشعبية في ليبيا (ثورة 17 فبراير/ شباط) ومدى تميزها عن نظيرتيها في كل من تونس ومصر، انطلاقا من سقوط «عمومية القياس»، حيث لم يعد مقبولا أن نقيس سمات نخبة وأوضاع مجتمع بالعوامل نفسها المناظرة في بلد آخر؛ فالأوضاع الداخلية في كل بلد هي انعكاس للواقع الجغرافي والتكوين الديموغرافي والتطور السياسي والسياق الاجتماعي والمزاج الشعبي الذي لا يصل أبدا إلى درجة التطابق بين بلد وآخر.

فالانتفاضة الشعبية الليبية هي جزء من الاحتجاجات العربية.. لها الخصائص نفسها، وتحمل المبررات نفسها، وتواجهها المشكلات نفسها، وتعترضها العقبات نفسها، لكنها تفرز مؤشرات مغايرة في سياق التطور العام، بما يجعل الثورات الشعبية تنفرد بسمات وخصائص لا تشاركها فيها أي احتجاجات عنيفة قائمة في دول ومجتمعات أخرى. ورغم أن الشباب الليبيين الذين يقودون المظاهرات الحالية ضد نظام القائد الليبي معمر القذافي نجحوا في استخدام الأدوات الإلكترونية لتكوين حشد جماهيري مناهض للنظام السياسي القائم على غرار تجربتي تونس ومصر، فإن ثمة عددا من الاختلافات بين ما يحدث في ليبيا وما حدث في كل من تونس ومصر، لدرجة يمكن القول معها إن ليبيا ثورة من نمط مختلف.

أول حالات التميز، تتمثل في ظاهرة «الانشقاقات» عن النظام الليبي، حيث قدم عدد غير قليل من المسؤولين الليبيين استقالاتهم اعتراضا على استخدام القمع لمواجهة المحتجين؛ بل وانضموا إلى صفوفهم، من بينهم النائب العام الليبي عبد الرحمن العبار، ورئيس إدارة التفتيش القضائي المستشار إبراهيم الخليل، بالإضافة إلى سفراء ليبيا لدى بلاد ومنظمات دولية عدة. كما انشق عدد من العسكريين والأمنيين على نظام القذافي، وأعلن وزير الداخلية اللواء الركن عبد الفتاح يونس العبيدي استقالته وانضمامه إلى حركة الاحتجاج، وانضم أيضا بعض ضباط وجنود قاعدة «بنينة» الجوية التي تقع في مدينة بنغازي إلى المحتجين، وانضم أيضا مدير أمن شعبة بنغازي العميد علي محمود هويدي إلى المتظاهرين، وقدم قائد المنطقة الشرقية اللواء سليمان محمود استقالته من مهامه العسكرية.

ثاني حالات الاختلاف هو انهيار هياكل الدولة الرسمية واتجاه المعارضة الليبية إلى التحول من حركة احتجاجية إلى حكومة موازية من خلال تشكيل مجلس عسكري في مدينة بنغازي يتكون من 14 من المنشقين، تتمثل مهمته الرئيسية في الدفاع عن المدينة ضد الهجمات التي تشنها القوات الليبية الموالية للقذافي، فضلا عن حماية الحدود الليبية المعترف بها، وتقديم المساعدة للمحتجين من أجل السيطرة على مزيد من المدن الليبية. إضافة إلى ظهور ما يعرف بـ«المجالس التنسيقية» لإدارة شؤون المدن التي تخضع لسيطرة المحتجين، مثل بنغازي وطبرق ودرنة والبيضاء وأجدابيا ومصراتة. وتتضمن هذه اللجان عددا من الشخصيات من المحامين والقضاة والمثقفين والأكاديميين ورجال الجيش والشرطة الذين انضموا للمحتجين، إلى جانب الشباب الذين قادوا المظاهرات ضد النظام الليبي.

ثالث مظاهر الاختلاف هو العنف الدموي المرافق للحركة الاحتجاجية، ورغم أن الاحتجاجات الجماهيرية في كل من مصر وتونس قوبلت بإجراءات أمنية صارمة، ونتج عنها خسائر بشرية وإنسانية، فإن أعمال العنف في الاحتجاجات الليبية اتسعت بمعدلات رهيبة، لدرجة أن البعض يعتبرها إبادة جماعية ومجزرة إنسانية، رغم تصريح معمر القذافي في إحدى خطبه بأن «القوة لم تستخدم بعد، لكنها ستستخدم لمصلحة الشعب الليبي في نطاق القانون الدولي». وهناك تخوفات غربية، وأميركية تحديدا، من استخدام القوات الموالية للقذافي الأسلحة الكيماوية ضد المحتجين. ومن ثم، فإن نتائج الثورة الليبية سوف تكون باهظة التكاليف، وتحديدا في ما يخص الخسائر في الأرواح ثم الممتلكات.

رابع مظاهر الاختلاف هي استحالة نجاح الثورة من دون حسم عسكري، بحيث تتحول الثورة الشعبية «السلمية» إلى انتفاضة مسلحة، تحتاج إلى النفس الطويل، فضلا عن العوامل اللوجستية الأخرى التي تمكنها من الصمود والاستمرار. ومما يزيد الأمور تعقيدا هو «انقسام الجيش على نفسه لأسباب مختلفة، وهو ما يتعلق بدرجة كبيرة بالتركيبة القبلية العشائرية للواقع الاجتماعي في ليبيا». ورغم أن القوى المعارضة باتت متسلحة بالدبابات والعربات المدرعة والأسلحة الرشاشة الثقيلة والمتوسطة، خصوصا في مدينة بنغازي، فإن عامل البعد الجغرافي عن العاصمة طرابلس يجعل الزحف بعيد المنال على الأقل في المرحلة القريبة، لا سيما أن القوات الموالية للقذافي مجهزة بالأسلحة الحديثة والطائرات العمودية والحربية، فضلا عن تشكيلات غير منظمة من المرتزقة.

خامس مظاهر الاختلاف هو بروز العامل الخارجي في الأزمة؛ ففي حالتي مصر وتونس، اقتصر دور الخارج على توجيه بيانات لدعم مطالب المحتجين ومطالبة قادة النظام بالتنحي، لكن في الحالة الليبية الأمر مختلف باعتبار أن ظهور احتمال لحدوث تدخل عسكري خارجي لإنهاء الأزمة بسبب الخسائر البشرية الفادحة الناجمة عنها، حيث أعلن مسؤولون في المعارضة بشرق ليبيا عدم استبعاد إمكانية توجيه طلب إلى دول أجنبية لتوجيه ضربات جوية للقوات التابعة للقذافي في حالة الفشل في إسقاط النظام بمفردهم، وإن كانت معظم أطياف المعارضة ما زالت تعارض التدخل العسكري. وقد ظهرت فكرة إقامة منطقة حظر طيران في ليبيا كوسيلة دولية لتقييد حركة القذافي وقدراته. ذلك فضلا عن اتجاه المجتمع الدولي إلى فرض عقوبات مشددة ضد نظام الرئيس الليبي، حيث فرضت الولايات المتحدة الأميركية عقوبات قوية على القذافي وأفراد أسرته وكبار مسؤولي نظامه، كما فرض مجلس الأمن الدولي بالإجماع، في 27 فبراير 2011، عقوبات قوية على النظام الليبي، تضمنت فرض حظر على سفر القذافي وأفراد عائلته وتجميد أرصدتهم، واعتبر قرار مجلس الأمن أن الهجمات الواسعة التي وقعت في ليبيا ضد المدنيين يمكن أن ترقى إلى تصنيف الجرائم ضد الإنسانية. أضف إلى ذلك موافقة الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي في 28 فبراير، على مجموعة من العقوبات ضد النظام الليبي، وذلك خلال الاجتماع الذي عقده المجلس الوزاري الأوروبي في بروكسل.

هذه الاختلافات والتمايزات المهمة سوف تهم الدول والشعوب العربية في الحاضر، والمؤرخين في المستقبل، ولكنها كلها سوف تشير إلى أن تمايز واختلاف الثورات لا يعني بالضرورة أنها لن تصل في النهاية إلى نتيجة واحدة. والسؤال هو: كم من الثمن، أرواحا وأموالا، سوف يدفع حتى نصل إلى هذه النتيجة؟