النموذج التركي وانتفاضات العالم العربي

TT

دعوة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك إبان الثورة الشعبية في مصر لأن «يصغي إلى صوت الداخل وأن يحترم إرادته ومطالبه»، وتأكيد الرئيس التركي عبد الله غل على أن ما يجري «لا يعني العالم العربي وحده بل العالم الإسلامي بأكمله المدعو إلى المزيد من الإصلاحات والتغيير والديمقراطية»، وهو في طريقه إلى طهران مؤخرا تعكس عدم وجود أي رغبة تركية في دعم مقولة تبني «النموذج التركي» عند البحث عن البدائل والخيارات السياسية والدستورية الأفضل لهذه البلدان للخروج من أزماتها.

ربما يكون هناك طروحات بعض «كبار» منظري العصر مثل صموئيل هنتنغتون الذين يرون أن موقع ودور تركيا الأنسب هو الشرق الأوسط حيث ستكون هناك النموذج الأفضل كونها ستعرض ديموغرافية الغرب وثقافته للخطر إذا ما قبلت عضوا في الاتحاد الأوروبي. وربما أيضا بسبب خطط ومشاريع البعض الآخر في العمل على الإطاحة بحزب العدالة والتنمية وإبعاده عن السلطة في انتخابات يونيو (حزيران) المقبل - كون تطلعات وخطط أردوغان وداود أوغلو الإقليمية تتعارض مع حساباته ومصالحه - رفض القيادات التركية للجزرة التي يحاول البعض أن يغريها بها.

أنقرة التي لعبت كل ما تملكه من أوراق باحتراف ودقة مع القيادات العربية التي سقطت أنظمتها حتى الآن وكانت إلى جانبها عقود ومشاريع استثمار وتعاون وانفتاح تجاري واقتصادي، لا يمكنها سوى أن تكون قريبة - بعيدة من دول المنطقة في الوقت نفسه؛ قريبة لتقديم العون والمساعدة عند الضرورة والطلب، وبعيدة حتى لا تتهم بالتدخل في الشأن الداخلي العربي ومحاولة التأثير في رسم خارطة مستقبله السياسي. فهي تتابع عن قرب ردود الفعل العربية التي أشادت بصراحتها المطلقة خلال توجيه الرسائل إلى الرئيس مبارك لكنها انتقدت أسلوب الابتعاد والحذر قدر الإمكان خلال الحديث إلى الرئيس القذافي.

ما سمعه الرئيس غل قبل أيام خلال زيارته الأخيرة إلى القاهرة من قبل أحد قيادات حركة «كفاية» المصرية حول «الاستفادة من النموذج التركي حتى ولو كانت أنقرة لا تريد تقديم نفسها عربيا وإقليميا بهذه الطريقة»، وما ردده الشيخ راشد الغنوشي حول «النظام التركي» الناجح ربما أسعد الرئيس التركي ورفع معنوياته. لكن تركيا - وكما فهمنا من الرئيس غل، الذي حرص على اللقاء بالكثير من القيادات والفاعليات السياسية والاجتماعية دون تمييز بينها - تريد أن ترى مصر قبل غيرها مصدر الإلهام والتغيير في العالم العربي وتريد الرهان على عودة مصرية عربية وإقليمية قوية إلى المنطقة تليق بدورها وحجمها ومكانتها وهو أساسا من حقها الطبيعي كما قال.

حتما أفضل ما أشارت إليه أنقرة في مثل هذه الظروف هو ضرورة إشراك الإسلاميين في الحكم والسلطة لأن ذلك من حقهم أولا ولتجنب سياسات إبعادهم وعزلهم التي تقود نحو التطرف والتصعيد والتأزم ثانيا، ولأن إشراكهم في السلطة يعني إشراكهم في تحمل المسؤوليات والأعباء وإلزامهم بوضع أصابعهم تحت الحجر المعرقل للمساهمة في إزاحته من الطريق وهذا هو الأهم.

أنقرة - وكما رددت قياداتها أكثر من مرة - عندما تقول ما عندها - وحتما هذه هي النقطة التي ستعطيها الأولوية دائما - ستكون في مقدمة المتصدين لأي رهان على مشروع إقليمي يخطط له البعض لافتعال خط مواجهة عرقي أو مذهبي داخل الدول العربية والإسلامية أو فيما بينها. وربما هنا يقفز نموذج التعايش التركي إلى الأمام رغم العديد من نواقصه وسلبياته. أما النقطة الثانية التي تركز عليها خلال مناقشة طروحات الـ«موديل» التركي فهي أن لكل دولة عربية وإسلامية خصائصها وبنيتها وجغرافيتها التي تميزها عن بقية الدول والتي لا يمكن التفريط فيها أو تجاهلها خلال الحديث عن خطط التغيير والتحديث. فلا يكفي أن يدعم أحدهم مقولة «الشعب يريد إسقاط» على هذا النحو وتبسيط حجم المخاطر المحدقة، متجاهلا الحالة الليبية بكل مضاعفاتها حيث يبرز واضحا أن لعبة إسقاط القيادات والأنظمة ليست بمثل هذه السهولة التي يصورها البعض.

خلال الحديث عن النموذج التركي الذي لا نعرف بعد عن أي نموذج يجري التطرق إليه: نموذج تركيا ما قبل مصطفى كمال أتاتورك وحتى تاريخ إعلان الجمهورية عام 1923، أم نموذج ما بعد هذه الحقبة حيث توسعت رقعة انتشار الحالة العلمانية في البلاد، أم أننا نتحدث عن مرحلة التغيير والتحول التي انطلقت عام 2002 تاريخ وصول «العدالة والتنمية» إلى السلطة، خلال الحديث عن هذا النموذج لا بد لنا من القبول بحقيقة أن الصعود التركي خلال السنوات العشر الأخيرة أغاظ البعض إقليميا وترك البعض الآخر في حالة من الانبهار. وربما هنا برز الدور التركي الإقليمي الذي جعل من العدالة والتنمية الشرارة التي أضرمت النار في عود الثقاب وساهمت في تحريك الانتفاضات والثورات الشعبية في الشارع العربي.