السخرية سلاح جهادي مدني

TT

السخرية والنكات والرسوم الكاريكاتيرية السياسية من أساليب الجهاد المدني. أتيت على هذا الموضوع في كتابي «السخرية السياسية العربية»، وأيضا في كتابي «Civilian Jihad». رأينا نماذج منها حملها الشباب في انتفاضة ساحة التحرير في ما حملوه من شعارات وملصقات. رأينا منها لوحة حملها رجل: «ارحل يا مبارك! مراتي ح تولد. مش عايز ابني يتولد في زمانك!». كثيرا ما تعتمد السخرية السياسية على الرمزيات. اكتشف الفرنسيون تحت الاحتلال النازي أن الضباط الألمان مولعون بشراء الببغاوات لأنهم في ألمانيا لا يستطيعون الحصول عليها من أفريقيا أو الهند. فراحوا يشترونها من الفرنسيين. بادر المقاومون إلى تلقين الببغاوات بحيث لا تنطق إلا بكلمة واحدة هي: «يسقط هتلر!»، يشتريها الألماني ويأخذها للبيت فتقضي النهار كله تزعق «يسقط هتلر!» حتى يفقد الضابط أعصابه ويطلق عليها النار.

سمع أحدهم بأن إحدى الكنائس عرضت ببغاء للبيع. قال هذه حتما ببغاء بريئة لا يمكن أن تكون قد تعلمت في الكنيسة غير العبارات الدينية. فاشتراها وجاء بها للبيت. راح يمتحنها أولا فوقف أمامها وصاح: «يسقط هتلر» فردت عليه بذلك الخشوع الكنسي «آمين!».

في سياق الأبحاث المحمومة في تنقيب وثائق الحكم النازي عثروا مؤخرا على ملف غريب مليء بالأوراق والوثائق والتصاوير الفوتوغرافية. الملف لا يتعلق بموضوع أو شخص غير موضوع كلب. الكلب فيدو. اكتشف الألمان أن مواطنا فنلنديا علم كلبه هذا على أداء التحية النازية. تقف أمامه وتقول «هايل هتلر» فينتصب الكلب ويرفع يده بالتحية على نحو ما كان يفعل الفوهرر. فيضحك القوم على ما يرون. اعتبر النازيون أن هذا ينطوي على إهانة لزعيمهم. فألقوا القبض على الرجل وأحالوه للمحاكم بتهمة إهانة الفوهرر.

أنكر السيد بورغ، صاحب الكلب، ذلك وقال إن هذا كان يحدث أحيانا عفويا وغالبا ما يحصل مع زوجته عندما تلاعب الكلب. بيد أن الألمان لم يقتنعوا بحجته وجاءوا بشهود وتصاوير تثبت دعواهم.

وهنا تدخلت المنافسة الرأسمالية في الموضوع. فقد كان السيد بورغ يمتلك أكبر المؤسسات الصيدلانية في فنلندا. فطالبوا المحكمة بتجريمه ومعاقبته، لا بإعدام الكلب كما نتوقع، وإنما بتدمير كل معامله ومنشآته ومخازنه الصيدلانية، حتما ليفسح المجال للصناعات الألمانية باقتحام السوق.

جدير بنا أن نلاحظ كيف أن هؤلاء النازيين الذين اشتهروا بأشرس نظام ظهر في أوروبا التجأوا للقضاء لإدانة شخص أهان زعيمهم. وتركوا وراءهم هذا الملف السميك عن القضية. أي حكومة ديكتاتورية عربية تفعل مثل ذلك؟ تصوروا ما يحدث لأي أحد يجرؤ على إهانة صدام حسين. تالله لاغتيل زيد باسم زائدة واقتيد عمرو والمبتغى عمر!

السخرية السياسية لا تسقط النظام ولكنها تشد أزر الشعب وعزيمته وتعبر عن شجونه وتنقل مشاعره للرأي العالم المحلي والعالمي وتعطي إشارات للحاكم بقرف الناس من نظامه وظلمه. قيل إن جمال عبد الناصر كان يطلب من مخابراته تزويده بآخر ما يتردد في المقاهي من نكات عنه وعن نظامه.