حتى لا تنتكس «الثورة» وتضيع فرصة تاريخية!

TT

بحلول هذا اليوم، الخميس العاشر من فبراير (شباط)، يكون قد مر على بداية انتصار ثورة الشباب في مصر نحو أربعة وأربعين يوما وهذه مدة كان يجب أن تكون كافية للهدوء والاستقرار والبدء بتحول هذه الثورة مرة أخرى إلى دولة، وبخاصة أن مصر ليست من بين الدول «الكرتونية» وتتميز بأنها دولة مؤسسات وقوانين، وأنه بقي هناك تواصل فيها بين السابق واللاحق والقديم والجديد، وأن الحركات الاجتماعية، كهذه الحركة الأخيرة، كانت تأتي دائما وأبدا كمحطة تصحيحية ولترشيق لياقة الدولة وليس لتدميرها وإزالة كل ما هو قائم والعودة إلى نقطة الصفر.

وهذا يعني أنه كان على ثورة الشبان أن تبادر فور ما أصبحت مقاليد الأمور في يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى إفساح الطريق أمام هذا المجلس وألا تمارس أي ضغط عليه بالتهديد بـ«ميدان التحرير» وألا تتجاوزه بأخذ القوانين بيدها وبالتدخل تدخلا مباشرا في شؤون الدولة والأجهزة الأمنية، والسبب أن هذا أوجد ازدواجية سلطة، وجعل هناك أكثر من مركز قرار، وهذا بالتأكيد إن هو استمر فإنه سيؤدي إلى المزيد من الارتباك وإلى إفساح المجال لنهازي الفرص وللفوضويين وللزعران أيضا لتشويه صورة هذه الثورة التاريخية النبيلة ولتعريضها للانحراف كما انحرفت ثورات بدأت عظيمة وواعدة ثم تحولت إلى حركات تدميرية بائسة.

كان على هؤلاء الشبان، الذين بكفاحهم وبعطاءاتهم العظيمة وبدمائهم الزكية أيضا قد حققوا إنجازا تاريخيا لمصر العظيمة ولأمتهم العربية وللعالم بأسره، ألا يقتربوا من السلطة إلى حد التدخل في تفصيلات شؤونها الداخلية اليومية، فهذه منذ لحظة رحيل الرئيس حسني مبارك مسؤولية المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يتشكل من مجموعة من القادة المميزين، الذين بحكم عملهم الطويل في هذه المؤسسة الوطنية ذات التاريخ المشرف المجيد تكونت لديهم خبرات نادرة للبناء على ما هو قائم استجابة لمنطلقات هذه الثورة الشعبية وعلى نحو يحقق التغيير المنشود والإصلاح الذي رفعت راياته ثورة هذا الجيل الذي هو مستقبل مصر، والذي التقط اللحظة التاريخية ووضع هذا البلد الذي يشكل نقطة الارتكاز الرئيسية في الشرق الأوسط وفي المنطقة العربية على بداية طريق المستقبل الواعد.

كان على هؤلاء الشبان بعد هذا الإنجاز العظيم وبعد وضع الأمانة في يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يباشروا بالتحول من حركة شعبية عفوية انضوى في صفوفها أصحاب وجهات نظر عديدة وكثيرة إلى كيان سياسي مؤطر وواضح وببرامج سياسية واقتصادية واجتماعية محددة يخوض على أساسها معركة الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة ليصبح شريكا في الحكم وليستطيع تنفيذ كل الأفكار والمنطلقات والتصورات التي كانت من أجلها هذه الانتفاضة المجيدة.

وهنا ومن موقع الحرص على هذه الثورة وعلى عدم انحرافها عن خيط سيرها، وتحولها بدل أن تكون نعمة للشعب المصري إلى نقمة عليه، وبدل أن تكون حركة بناء تصبح حركة هدم، فإنه لا بد من التحذير من أنه بدأت تظهر بعض الأعراض الخطيرة، التي إن هي استمرت وإن لم يوضع لها حد وبسرعة، فإنه ستكون هناك انتكاسة وسيكون هناك فشل لا محالة، ولعل أخطر هذه الأعراض هو استهداف هيبة الدولة، وهذا ما بادر رئيس الوزراء التونسي الجديد الباجي قائد السبسي إلى ملامسته كأولوية لحكومته عندما أكد في أول خطاب وجهه إلى شعبه على أن ضرورة استعادة هيبة الدولة هي أولويته الأولى وعلى أن هذا يتطلب الإسراع في استتباب الأمن وتطبيق القوانين، وذلك لأن غياب هيبة الدولة يعني الفوضى والانهيار.

ليس ضروريا أن يتدخل شبان الثورة في عمل المجلس الأعلى للقوات المسلحة سواء منه ما يتعلق برئيس الوزراء البديل وباختيار وزرائه أو ما يتعلق بالأجهزة الأمنية ومداهمة مقراتها والتحفظ على ملفاتها، وأيضا منه ما يتعلق بالإعلام وإعادة ترتيب أوضاعه، وما يتعلق بشؤون مصر الخارجية، فهذا هو الذي أوجد سلطة أخرى إلى جانب سلطة المجلس الأعلى، وبالتالي فإنه أساء إلى هيبة الدولة وفتح المجال أمام الفوضويين والزعران ليعيثوا في البلاد فسادا وليعتدوا على أموال المواطنين وعلى حرماتهم وأرزاقهم.

إن هذه بعض الممارسات التي كان يجب ألا يقترب منها شباب الانتفاضة على الإطلاق، كما كان عليهم، ما دام أن ما قاموا به واجترحوه هو ثورة فعلية وحقيقية ترفض كم أفواه المعارضين وقمع حريات أصحاب الرأي الآخر وإرهاب غير الموالين باستهدافهم بالتهم الباطلة، أن يبتعدوا عن أي نزعة «مكارثية» ضد الآخرين، وأن يسمحوا حتى لرموز النظام السابق أن يعبروا عن وجهات نظرهم بحرية كاملة وعبر كل وسائل الإعلام المتاحة، وأن يتركوا للكتاب والصحافيين ولمنتسبي الأحزاب السياسية، حتى بما في ذلك منتسبو الحزب الذي كان يهيمن على الحكم والسلطة وعلى كل مفاصل الدولة، أن يقولوا آراءهم بكل شيء، إن سلبا وإن إيجابا، وذلك ليشعر الشعب المصري أن هناك فرقا فعليا بين ما كان سابقا وبين ما أصبح عليه الحال بعد هذه الثورة التحريرية والديمقراطية العظيمة.

وحتى بالنسبة للرئيس مبارك، فإن المفترض ألا يتعرض لكل هذا التدمير الذي طال ماضيه قبل حاضره فهو بلا نقاش قد ارتكب أخطاء كثيرة؛ أولها بقاؤه على رأس السلطة كل هذه الأعوام الطويلة وهو قد أحاط نفسه بالفاسدين والمتزلفين الذين أغرقوه وأغرقوا نظام حكمه، لكن وبما أن هذه الثورة هي ثورة الإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه، فقد كان لا بد من الاعتراف بأن لهذا الرجل إنجازات هائلة وعظيمة، إن في الحرب وإن في السلام، وأن هناك كل هذه المدن الحديثة التي تحيط بالقاهرة ومن كل الاتجاهات، وأن هناك أيضا شرم الشيخ التي هي عبارة عن نهر ذهب سيستمر جريانه حتى نهاية الخليقة.

ثم إنه على شباب هذه الثورة المجيدة فعلا أن يلاحظوا وأن يدركوا أن بعض الممارسات الخاطئة، بالإضافة إلى استهداف هيبة الدولة وإفساح المجال لنهازي الفرص والمتسلقين ليركبوا أمواج ما حصل، قد أدى إلى بعض خيبات الأمل وإلى الإحباط لدى قطاع واسع من الشعب المصري الذي بات يشعر أن استمرار الأمور في هذا النسق سيؤدي بالنتيجة إلى كوارث سياسية واقتصادية، وستكون هناك ثورة مضادة لا محالة، وسيكون هناك نظام قمعي واستبدادي، وإن بملمس حريري ومخملي في البداية.

إن كل الذين هتفوا للثورة وزغردوا لها يريدون الإسراع في العودة للاستقرار واستئناف حياتهم اليومية كالمعتاد، فهناك أفواه بحاجة إلى الخبز، وهناك تلامذة وطلاب يريدون الذهاب إلى مدارسهم وجامعاتهم، وهناك اقتصاد بات يترنح ولا بد من تداركه قبل أن ينهار، وكل هذا يتطلب سلطة موحدة وأجهزة أمنية متماسكة، ويتطلب استقرارا فعليا يعيد الانتعاش للعملية الاقتصادية وللقطاع السياحي وللصناعة ولكل شيء.

وبالنتيجة فإنه لا بد من القول لشباب هذه الثورة الواعدة، ومن موقع التأييد والحب، إن ما فعلوه لا يشكل إنجازا لمصر وحدها بل للعالم العربي كله، فمصر هي قلب الأمة العربية النابض، وهي مثل العرب المحتذى في كل شيء، ولذلك فإن هناك كل هذه الانتفاضات التي انتقلت إلى الكثير من الدول العربية، ولهذا فإن عليهم أن يتيقنوا من أن إبداء هذه الملاحظات الآنفة الذكر هو من موقع الغيرة والحرص، وهو بدافع الخوف من أن تؤدي هذه الأخطاء إلى ما أدت إليه أخطاء وقعت فيها الكثير من الثورات فانتهت إلى نهايات مأساوية، نرجو من الله ألا تكون هي نهاية الثورة الشبابية المصرية العظيمة.. وحمى الله مصر.