حدود التدخل في ليبيا

TT

بعد أن بلغ تشبث العقيد معمر القذافي المستميت بـ«نعمة» حكمه المنهار حد الاستعداد لاحتلال أرض بلاده عسكريا وإخضاع شعبها بالقوة لسلطته، تبدو ليبيا متجهة للتحول إلى جبهة قتال عسكري يشرع الباب واسعا لاحتمالات التدخل الخارجي. وقد تكون اقتراحات التسوية التي قدمها الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز أول الغيث في هذا الاتجاه.

الانتفاضة الليبية بدأت تتميز عن انتفاضتي تونس ومصر. وأي مقارنة بين الانتفاضات الثلاث تبرر الاستنتاج بأن ما يطيل أمد حكم القذافي في طرابلس الغرب هو افتقار الساحة الليبية إلى عامل حسم تمتلكه، دونها، الدولتان المجاورتان: المؤسسة العسكرية المتماسكة والقادرة على احتواء التصعيد الأمني في مواجهة الشارع والسلطة.

الانتفاضة الليبية على الحكم السلطوي كانت، عند انطلاقتها، كانتفاضتي تونس ومصر: أقرب في طبيعتها إلى الاعتصامات الشعبية الحاشدة منها إلى الثورة العامة على النظام.

حياد المؤسستين العسكريتين في كل من تونس ومصر، وصمود شارعيهما في مواجهة تهديدات القمع بالقوة، إضافة إلى النفس الطويل الذي تحلت به حركتا التحرر التونسية والمصرية.. ذلك كله حوَّل الصمود إلى قرار شعبي بتغيير النظام في البلدين. لكن هذا التغيير كان يمكن أن يتخذ منحًى دمويا ومأساويا لو لم تحسم المؤسستان العسكريتان في الدولتين، بسرعة، مصير النظام، وتشكلا، بموقفيهما غير المسيسين، جسرا للعبور إلى المرحلة الانتقالية الراهنة.

لأن المؤسسة العسكرية مفقودة في ليبيا - نظرا لانقسام الجيش من جهة، وتولي «كتائب أمنية» موالية للقذافي مهمة قمع الانتفاضة، من جهة أخرى - ولأن إنهاء الحكم الديكتاتوري فيها لا يبدو بالسهولة التي انتهى بها حكما زين العابدين بن علي وحسني مبارك، باتت الانتفاضة الليبية مفتوحة على احتمال التحول إلى حرب أهلية شرسة. وبعد أن فقد القذافي الكثير من بلداته النفطية لم يعد مستبعدا أن يستأسد على شعبه (وخطب العائلة القذافية تبشر بهذا الاحتمال) وأن يزداد اعتمادا على ما تبقى تحت سيطرته من سلاح الطيران وعلى المرتزقة الذين تحدثت الأنباء عن استيرادهم من بعض الدول الأفريقية.

لكن إلى متى تستطيع الأسرة العالمية، والدول العربية بشكل خاص، تحمُّل مشاهد سفك الدماء والبطش بالمدنيين من دون أن تحرك ساكنا؟

دول الغرب المتخوفة على إمداداتها النفطية من ليبيا، وعلى تدفق النازحين إلى أراضيها، تلجمها عن التدخل تجربتا العراق وأفغانستان.

وبينما تنظر الجامعة العربية بحذر إلى أي تدخل غير عربي، تبدو هي أيضا مكبلة بعبارات تأمين إجماع عربي على أي قرار تدخل مباشر في ليبيا.

إلا أن العواصم الأوروبية تدرك تماما أن أي تدخل عسكري غربي، خصوصا الأميركي، في الحرب الليبية، من شأنه أن يشق صفوف الانتفاضة الليبية ويحمل بعض فصائلها على توجيه بنادقهم باتجاه الأميركيين بدلا من مرتزقة القذافي. وفي هذا السياق قد ينفع التذكير بأن لليبيا تاريخا «جهاديا» معروفا جسده عمر المختار في حربه على الاستعمار الإيطالي لبلاده، وأن «الجهاديين» الليبيين كانوا من أبرز المقاتلين ضد التدخل العسكري الأميركي في العراق. (مؤسسة «وست بوينت» الأميركية لمكافحة الإرهاب قدرت عددهم، عام 2008، بما يعادل خُمس مجموع «الجهاديين» الأجانب في العراق).

على خلفية هذا الوضع المعقد، من الأسلم ترك الانتفاضة الليبية لليبيين وحدهم. إلا أن ذلك لا يمنع الجامعة العربية من التحرك على صعيدين، الأول: دعوة الأسرة الدولية إلى الاعتراف بالمجلس الوطني الليبي والتعامل معه كممثل شرعي لليبيا، والثاني: دعوة مجلس الأمن لإضفاء شرعية دولية على مطالبة الانتفاضة الليبية بفرض حظر جوي على كل ليبيا لمنع نظام القذافي من نقل المرتزقة الأفارقة، جوا، إلى طرابلس والغرب، وللحيلولة دون مواصلة طيرانه قصف المناطق والمدن المحررة في شرقي ليبيا.