التغيير العربي والمساحات الإسلامية

TT

في غمار الاندفاعات التغييرية العربية، طرحت المسألة الإسلامية من جديد في معرضين: معرض التخوف من استيلاء الإسلاميين (والمقصود الإخوان وتفرعاتهم) على المشهد والانتخابات بسبب حسن تنظيمهم، ومعرض التفكير في الحالة التركية باعتبارها نموذجا حيث يمسك الجيش والآيديولوجيا العلمانية بالدولة، وتدير قوى إسلامية (معتدلة) النظام السياسي استنادا إلى فوزها في انتخابات حرة. وفي حين انخفضت المخاوف أو الهواجس دون أن تزول بالنسبة للمسألة الأولى (= غلبة الإخوان) وبالنسبة لتونس أكثر من مصر؛ فإن اعتبار تركيا وما حصل فيها بعد عام 2003 (تاريخ وصول حزب العدالة والتنمية لتشكيل الحكومة بالأكثرية التي حصل عليها في الانتخابات) نموذجا لما يمكن أن يسلم به الغرب والليبراليون العرب، ظل موضوع أخذ ورد. ولا أقصد هنا إلى مناقشة صحة إحدى الأطروحتين أو هما معا، بل العودة إلى الأصول، أي المسألة الإسلامية الحاضرة بشكل عام وفيما وراء الإسلام السياسي أو الإسلام الحزبي. والغرض من هذه العودة التوصل إلى بعض الثوابت في التفكير والتعامل والتصرف، وقد يعين ذلك أيضا على فهم بعض ما يجري في سائر الساحات العربية والإسلامية.

هناك - إذا صح التعبير - ثلاث حساسيات رئيسية في الإسلام السني اليوم، بل ومنذ عدة عقود: الحساسية الصوفية، والحساسية الإغوائية، والحساسية السلفية. وفي الإسلام الشيعي هناك حساسية رئيسية تقودها إيران في حقبة الجمهورية الإسلامية هي حساسية ولاية الفقيه، بالإضافة إلى حساسيات أخرى عديدة لم تتبلور تماما بعد. وعندما أتحدث عن هذه الحساسيات التي تبرز في بعض المديات الجغرافية؛ فإن ذلك لا يعني عدم وجودها في المديات الأخرى، إنما الغلبة الحاضرة لحساسية أخرى. والمعروف أنه في المجالات التركية (تركيا الحالية وجمهوريات آسيا الوسطى)؛ فإن الحساسية الصوفية كانت هي السائدة في مطلع القرن العشرين، وما يصدق على المجال التركي العثماني وخارجه، يصدق أيضا على شبه جزيرة الملايو وسومطرة في شرق آسيا (إندونيسيا وماليزيا الحالية). وقد واجه الانتماء الإسلامي في ذاك المجال أو المجالات الشاسعة، تحديات كبرى، وصلت أحيانا إلى حدود إلغاء ذاك الانتماء بالقوة. وقد كانت ميزة إسلام الطرق الصوفية، أنه استطاع الحفاظ على وحدة المجتمعات وانتمائها، وبوسائل وأساليب عرفية وسرية أو شبه سرية؛ بحيث - ومع الوقت - ما عاد الحاكمون من المستعمرين والشيوعيين والعلمانيين الراديكاليين يرون في تلك التيارات السارية المسالمة تحديا أو منافسة لهم. وقد كان من الطبيعي وسط المجابهات الشرسة أن تظهر جماعات إسلامية متشددة تتصدى للحاكمين والمسيطرين؛ فانصرفت الأنظمة لمكافحتها، وزاد ذلك من «اطمئنانها» إلى الصوفيين المسالمين، الذين لا يتعاطون مسائل الشأن العام. ولذلك فإن بدايات رد الفعل لدى جماعات الانتماء، وسواء في إندونيسيا أو تركيا؛ حملت في روحها تلك الملاءمة والرحابة، واللتين استندتا إلى مسلّمة وحدة الانتماء وإمكانيات المفاوضة والتجاذب، الذي لا يصل إلى حدود الصدام. والدارسون لسوسيولوجيا وتاريخ الانتماء الإسلامي في كل من إندونيسيا وتركيا، يعرفون التحديات المعلنة والمستترة والرهانات المتفاوتة التي قطعتها كل تيارات الانتماء إلى أن تبلورت بالشكل الذي هي عليه اليوم بإندونيسيا وتركيا. والذي أراه أن هذا «النموذج» إذا صح التعبير إنما هو خاص بتلك البقاع ذات الأصول الصوفية، ولا يصح بالتالي اعتبار هذا التطور نموذجا عاما يمكن استنانه بالنسبة للعالمين العربي والإسلامي، إلا بشروط كثيرة لا مجال لتعدادها في هذا السياق.

أما الحساسية التقليدية / الإخوانية؛ فيمكن ملاحظة بروزها في الديار العربية بالمشرق والمغرب (انطلاقا من مصر)، وفي شبه القارة الهندية. وما واجه هذا المجال تحديات مصيرية كتلك التي واجهها المجال التركي في مسألة الانتماء. بل واجه نموذج «الدولة الوطنية» المحايد إزاء الدين أو حتى المجامل له. وما استطاعت المؤسسات الدينية التقليدية (الأزهر وديوبند على سبيل المثال) عرض تلاؤم مقنع مع ظاهرة الدولة الوطنية مع أن الانتماء الأصلي ما جرى المساس به. فظهرت «الجماعة الإسلامية» بالهند وباكستان، وظهر الإخوان المسلمون وجماعات مشابهة بمصر وبقية الأقطار العربية. ولأن التنافس كان سياسيا؛ فإن الجماعة والإخوان طوروا نظرية سياسية هي نظرية الحاكمية، لمواجهة نموذج الدولة الوطنية، الذي تحول إلى العقائدية القومية والاشتراكية عبر وصول الضباط إلى السلطة في كل من باكستان والجمهوريات العربية الجديدة. ولهذا، وفي ظل التطورات الأخيرة؛ فإن التطور الممكن والذي ما تبلور بعد بشكل واضح، يتمثل في صيغة «الدولة المدنية» التي يشارك فيها الجميع (بمن في ذلك الإسلاميون)، وزيادة التواصل الانضباطي بين الإسلاميين الجدد والمؤسسات التقليدية التي ما اصطدمت بالدولة الوطنية، وما طورت نموذجا خاصا بها.

وما اختفت السلفية عن المسرح الإسلامي عبر شتى العصور. لكنها شهدت على الخصوص صعودا في سائر أنحاء العالم الإسلامي منذ القرن الثامن عشر، وشاركت مشاركة أساسية في قيام الدولة السعودية بمراحلها الثلاث. وأساس السلفية طهورية دينية قوية على مستوى العقيدة والعبادة، واهتمام فائق بأن تسود تلك الطهورية ذات الشعبتين في المجتمعات، برعاية السلطات إن أمكن، أو بالعمل المباشر من خلال مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد ظهر خلال النهضة الثانية للسلفية (منذ الستينات من القرن الماضي) توتر في أجزاء منها نتيجة تحديات الحداثة، وتحديات الدولة الوطنية، وتحديات الإسلامية الجديدة (الإخوان ومتفرعاتهم) بيد أن الساحات التي تنتشر فيها من شبه الجزيرة وإلى الهند، بقيت ثابتة، مع إحداث اختراقات في المساحات التي تسيطر فيها الحساسيات الأخرى.

والأمر لدى الشيعة العرب أكثر تعقيدا بعض الشيء. فقد استطاعت قيادة الجمهورية الإسلامية بإيران في المرحلة الماضية، أن تلحق العالم الشيعي بها أو أن تعطي الانطباع بذلك. أما في إيران نفسها فقد توحدت لأكثر من عقدين المؤسسة الدينية التقليدية، مع المصالح الوطنية الإيرانية، أو أنها مرة أخرى أعطت الانطباع بذلك. وكلا الأمرين ما حدث في الحقيقة في الأوساط الشيعية العربية، وإن أوحت أزمة الدولة في العالم العربي، وأوحى الإقدام الإيراني باتجاه الاستقطاب، بذلك. ويحدث الآن متغيران: المتغير بداخل النظام الإسلامي الإيراني، والمتغير الآخر الذي يعنينا هنا: إمكان بروز قيادة مستقلة للتشيع العربي عبر العراق، بمجتمعه ودولته ومرجعيته الدينية.

هذا هو مجمل التطورات التي أبرزت أهميتها من جديد المتغيرات العربية. ولست أزعم أن مصائر الإسلام معلقة عليها. بل إن الإسلام ارتبط دائما بالأمة في عقائدها وعباداتها وأعرافها. إنما الحديث الجاري يتصل بدور أو أدوار الإسلام في المرحلة الجديدة فيما وراء العقائد والعبادات والأعراف.

لقد كانت هذه المقالة الموجزة، استطلاعا للجيوسياسي في تأثيراته على سائر حساسيات الإسلام المعاصر، وتأثيرات تلك الحساسيات على مسألتي الانتماء والدولة فيه. وقد يحدث ما ليس في الحسبان، بسبب استمرار التأزم في سائر المجالات الجيوسياسية؛ وبخاصة في العالم العربي، وشبه القارة الهندية. لكن الذي أراه أنه مهما يكن الأمر، فلن تكون هناك اختلالات في الخطوط الرئيسية التي حاولت رسمها بالدقة الممكنة، والاستشراف الممكن.