مناورة عثمانية صرفة

TT

اتحاد «شامغين» (اتحاد دول إيران والعراق وسورية وتركيا)!.. هل يبدو الأمر مألوفا؟ بوضوح لا. هذا هو المصطلح المستخدم في أنقرة وطهران لوصف «بنية سياسية جديدة للشرق الأوسط» كما يتخيلها خبراء استراتيجيون وجغرافيون أتراك وإيرانيون.

ولا شك في أن المنطقة سوف تحتاج إلى بنية سياسية جديدة. ولا أحد يعرف ما الذي قد تتمخض عنه الثورات الأخيرة والحالية في ست دول تمتد من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي. لكن، يتفق الكل على أنه يتعين علينا أن نبحث عن شيء أكثر من مجرد عمل تقليدي.

ويمكن أن نشير إلى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على أنه رجل لديه مخطط لفرض النظام والتغلب على الفوضى. ويعتقد أردوغان أن الولايات المتحدة، أكبر قوة تقليدية تمتلك نفوذا في المنطقة منذ عقد الخمسينات من القرن الماضي، قد فوجئت بما يعرف باسم «الربيع العربي»، ويبدو أن أوباما غير قادر على ادعاء القيادة في تشكيل الشرق الأوسط الجديد. ويعتقد أوباما أيضا أن القضية الإسرائيلية - الفلسطينية، التي كانت تعتبر لفترة طويلة القضية المحورية الأهم في سياسات منطقة الشرق الأوسط، قد أهملت وتم التغاضي عنها لبعض الوقت.

والفرضية الثالثة لأردوغان هي أن جامعة الدول العربية، على الرغم من مناوراتها المريبة بشأن ليبيا، لا تمتلك وضعية تمكنها من فرض تأثير على الأحداث، ناهيك عن تحديد اتجاهها. وكل هذا يعني أنه لم يعد من الممكن لدول المنطقة أن تبني سياساتها الخارجية حول تحالف مع الولايات المتحدة أو حول كراهية حقيقية أو مختلفة تجاه إسرائيل.

وقد أسهم «الربيع العربي» في جعل الأمور أكثر تعقيدا بشكل محدود. وهذا هو السياق الذي وضعت فيه اتفاقية «شامغين» على الطاولة. وتمثل كلمة «شامغين» تلاعبا باسم مدينة «شينغين» في لوكسمبورغ، حيث وقع 25 عضوا من أعضاء الاتحاد الأوروبي على اتفاقية تقضي بإلغاء منح تأشيرات دخول لمواطني هذه الدول.

لكن الكلمة التركية الجديدة «شامغين» تشير أيضا إلى الشام، وهو اسم مقاطعة سابقة في الإمبراطورية العثمانية كانت تشتمل على ما يعرف حاليا بدول سورية ولبنان والأردن وإسرائيل والأراضي الفلسطينية.

لكن «شام أردوغان» الجديدة تم توسيعها لكي تضم العراق، المكونة من ثلاث مقاطعات عثمانية سابقة.

وخوفا من أن ينظر أي فرد إلى هذا المخطط على أنه تحرك للعثمانية الجديدة لتقسيم بعض الدول العربية الرئيسية الواقعة في الشرق عن الدول العربية الواقعة في شمال أفريقيا، دمج مخطط أردوغان أيضا ليبيا وتونس والمغرب في ذلك المخطط.. وهذا ليس كل شيء.

كما تشمل اتفاقية «شامغين» التي اقترحها أردوغان إيران، العدو الرئيسي للإمبراطورية العثمانية طوال فترة وجودها. ومن الواضح أن الأتراك لا يمكنهم السعي للقيادة في منطقة الشرق الأوسط عبر استبعاد إيران. وهذا ما حاول العثمانيون فعله، وانتهى بهم الأمر للاضطرار إلى القتال على جبهتين؛ ضد الصليبيين في الغرب وضد الإيرانيين في الشرق.

وفي مرحلتها الأولى، يتصور برنامج أردوغان منطقة تحرك حرة تبدأ بإلغاء التأشيرات بين الدول المعنية. وسوف تقود المرحلة التالية الحركة الحرة للسلع ورأس المال في تقدم مرحلي تجاه سوق شرق أوسطية مشتركة. هل هذا مجرد حلم عثماني كاذب جديد مصمم للتغطية على حقيقة أن تركيا أصبحت أبعد من أي وقت مضى عن تحقيق هدفها القديم بأن تصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي؟

وخلال فترة قريبة، سوف يتعين على أردوغان أن يواجه انتخابات عامة ويقاوم التداعيات السلبية للتباطؤ الاقتصادي والسخط الاجتماعي والخلافات المتعمقة داخل معسكره الإسلامي. ويمكن أن توفر اتفاقية شامغين «فكرة عظيمة» تستحوذ على عناوين الصحف وتحول الاهتمام من الأداء السيئ للحكومة التركية على مدار السنوات الأربع الماضية.

وبعدما انعزلت عن أوروبا، تخشى تركيا الآن من أن تنعزل عن دول الشرق الأوسط كما هو الحال بالنسبة للجمهورية الإسلامية الإيرانية تحت قيادة الرئيس محمود أحمدي نجاد. وحسب رؤية أنقرة، تواجه ثلاث دول خطرا وشيكا بالوقوع تحت السيطرة الإيرانية. وأول دولة من هذه الدول هي العراق، حيث يصر أوباما، الذي لا يزال مصمما على أن جورج دبليو بوش كان مخطئا في قرار الإطاحة بصدام حسين، على إنهاء كل الوجود الأميركي الفعال في العراق قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة. وفي ظل قيادة أوباما للولايات المتحدة، سوف ينظر شيعة العراق والأكراد إلى إيران على أنها حليفهم الوحيد في حماية المكتسبات التي حققوها منذ التحرر.

والدولة الثانية هي سورية التي تزايد فيها التأثير الإيراني بسرعة كبيرة. وقد تم استبعاد أو إخراس آخر المؤيدين للخيار الغربي داخل دائرة السلطة الضيقة في دمشق. واليوم، تلعب إيران دور القوة الكبرى الحامية لسورية، وهو الدور الذي كان يلعبه الاتحاد السوفياتي خلال مرحلة الحرب الباردة.

والدولة الثالثة هي لبنان، حيث تستخدم إيران فرعها المحلي حزب الله في لعبة شرسة لاستعراض القوة. وهناك بيدق رابع صغير في لعبة الشطرنج هذه داخل غزة؛ حيث أصبحت حركة حماس، التي يتم تمويلها أساسا من قبل إيران، جزءا من سعي إيران لتحقيق نفوذ إقليمي.

ولا ترغب تركيا في سقوط العراق وسورية ولبنان وغزة تحت السيطرة الإيرانية الحصرية. لأن مثل هذا التطور سيؤدي إلى عزل تركيا وجعل موقعها أكثر ضعفا عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الاتحاد الأوروبي.

كما تجد تركيا، المطوق نصفها بإمبراطورية خمينية، نفسها مهددة على خلفيات عقائدية. وقد يكون أردوغان ذا توجه إسلامي سري كما يدعي منتقدوه. لكن توجهه الإسلامي يختلف عن توجه أحمدي نجاد بفكرته عن «الإمام الغائب».

واتفاقية شامغين تعتبر خطوة عثمانية صرفة، حيث تبدو مصممة لخدمة عدة أغراض في أوقات متناقضة. وبموجب هذه الخطوة سوف تمنع انقساما كاملا لتركيا، بصفتها عضوا في منظمة حلف شمال الأطلنطي، مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة. وسوف تبقي إيران مرتبطة بمخطط إقليمي، وهو ما يمنعها من محاولة ارتكاب أي أذى من تلقاء نفسها. وسوف تحول دون ظهور وضع تجد فيه العراق وسورية ولبنان أنفسها بمفردها مع طموحات إيران المتزايدة. ومع وجود تركيا كجزء من تركيبة إقليمية، ستكون هذه الدول في وضعية أفضل لقول «لا» لإيران عندما تحتاج لقول ذلك.

وسوف يدمج هذا المخطط أيضا تركيا في القضية الإسرائيلية الفلسطينية التي لا نهاية لها، وهو ما يمنعها من أن تصبح قضية إيرانية فريدة بفعل تحكم طهران في حماس.

ويعتبر إدراج الدول العربية الواقعة في شمال أفريقيا ضمن هذا المخطط حيلة لتمييع المحتوى السياسي للمخطط، وبهذا يعيد طمأنة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وما يحتل أهمية خاصة هو إدراج ليبيا في هذا المخطط، حيث لا يمتلك أي من العقيد معمر القذافي أو خصومه أي حب لنظام الخميني. وقد لا تكون اتفاقية «شامغين»، التي تعد مناورة عثمانية صرفة، أكثر من مجرد حلم كاذب. ومع ذلك، فإن ما تفعله هو تذكيرنا بأن هناك فراغا يتشكل في قلب الشرق الأوسط. وقد لا يكون أردوغان قادرا على شغله، لكن سوف يكون بمقدور شخص آخر القيام بذلك.