في السعودية.. الأولوية للاستقرار

TT

أطلق وزير المالية السعودي الدكتور إبراهيم العساف تصريحين خلال أقل من عشرة أيام انعكسا إيجابا على الوضع الاجتماعي والاقتصادي في المملكة. كان الأول بخصوص احتمالية لجوء مؤسسة النقد إلى استخدام الاحتياطي لتوفير ما مقداره 135 مليار ريال سعودي، وهي قيمة هدية الرجوع من الرحلة العلاجية التي قدمها العاهل السعودي للمواطنين على شكل منح وقروض وتسهيلات. كان الجميع متأكدين أن هناك هدية قادمة ولكن ماهيتها وحجمها لم يكونا واضحين.

تصريح وزير المالية باحتمالية اللجوء إلى الاحتياطي أمر مفهوم حيث إن قيمة الهدية نحو ربع ميزانية الدولة التي أقرت بداية العام الحالي، أي قبل شهرين فقط، وبالتالي توفير 135 مليار لتمويل القرارات الملكية ولم ينتصف العام المالي هو أمر غير مسبوق يشير إلى أن هذه القرارات تطلعت إلى رضا المواطن.

التصريح الثاني عندما كشف ولأول مرة مسؤول في الحكومة عن نشاطه المالي، حيث ذكر الوزير في لقائه مع قناة «العربية» أنه شخصيا تداول في البورصة السعودية لأن أسعار الأسهم مناسبة للشراء بعد أن هوت الأسبوع الماضي متأثرة بما يجري إلى سمعها عن الأوضاع السياسية في المنطقة، خاصة ليبيا التي يبدو أنها لن تنتهي سريعا.

إضافة لتأكيده دخول بعض الصناديق الحكومية بقوة في سوق الأسهم خلال فترة الهبوط. لقاء الوزير أنعش السوق السعودية، لأنه طمأن المتداولين بأن الوضع آمن ولا حاجة للذعر وتسييل المحافظ الاستثمارية والبيع غير المنظم للأسهم، تأثر بهذا التصريح كذلك المواطن العادي البعيد عن البورصة والذي ينظر إلى استقرار سوق الأسهم السعودية كمؤشر على استقرار الأوضاع في الداخل، لذلك تجاوبت السوق لهذه التطمينات فارتفعت نحو 5% في اليوم الأول للتداول بعد أسبوعين من الهبوط.

يظن البعض أن التعجيل بالإصلاحات السياسية التي بدأها الملك عبد الله بن عبد العزيز منذ خمس سنوات هي المطلب الأول للسعوديين، لذلك ينظرون لهذه المليارات وأضعافها بأنها أمر ثانوي أمام المطالبات بالمزيد من الإصلاحات السياسية. في رؤيتي الشخصية أن المواطن السعودي يحمل في نفسه هاجسا كبيرا وأوحد يتمثل في القضاء على الفساد المالي والإداري.

حتى هذه المليارات التي تقدمها اليد الندية للملك تخشى الناس عليها من البيروقراطية والفاسدين.

كيف يقدم العاهل السعودي 135 مليار ريال في الشهر الثاني للعام المالي ولا يشعر المواطنون بالاطمئنان؟ إلا إن كانت ذاكرتهم مليئة بانطباعات وتجارب وحوادث سابقة لم تتوفر فيها أوجه الإنصاف والعدالة الاجتماعية في توزيع مقدرات الدولة. الشاب لا يفهم لماذا هو عاطل عن العمل في دولة هي من أغنى بلاد العالم، ولا يستطيع أن يتقبل مبررات السعودة الضعيفة وهو يطالع الشركات الكبرى كحيتان تتحكم في قوانين المحيط، كما لا يمكنه أن يقبل التذرع بنوعية التعليم، لأنه يعلم أنه حتى بعض زملائه العائدين من الابتعاث الدراسي في الخارج سيقعدون مجاورين له في صالة انتظار الوظيفة.

وليس من المعقول أن تتركز قوة البنية التحتية في المدن الكبيرة وتضعف في المناطق النائية لتبدو كأنها منعدمة الحظ، حتى وإن كانت مساحة البلاد شاسعة وصعبة التضاريس.

إضافة إلى أن المسؤول الذي يمسك بمصالح الناس يجب أن يكون عرضة للمساءلة في حال أخفق أو تسبب في تلف للمال العام أو انتهاك لحقوق المواطنين.

في السعودية لا يوجد حاكم ديكتاتوري محتكر للسلطة، ولا معارضة مقموعة من نظام سياسي انتخابي، ولا يمثل الجهاز الأمني أداة بطش، معظم مخاوف الناس منصبة على أمر واحد؛ وهو أن يذهب جزء كبير من مقدرات البلد إلى يد من لا يستحقها.

الفساد هو الداء لدولة مثل المملكة؛ نامية، متطلعة، وغنية. لا شيء مثل الفساد يشكل أذى، لا الطائفية ولا القبلية ولا طبيعة النظام السياسي، ولا حتى مارد الإرهاب، ولا الدول المستأسدة التي تهدد وتتوعد عن بعد. والحكومة التي تسعى لتسهيل أمور الناس الحياتية من خلال إقرار ميزانية ضخمة للتنمية وتيسير الاقتراض وتحسين الرواتب ومضاعفة المنح، تحتاج أن تضع بالمقابل جهازا مستقلا لمكافحة الفساد، يقوم عليه شخصية نافذة قادرة على مواجهة المقاومة المتوقعة، دون أن يشعر بالضعف أو النقص أو التردد كونه ضمير النظام.

هذا المطلب لا يحتاج إلى هبة شعبية ولا رفع لافتات ولا صراخ في الشوارع ولا فوضى، لأن كل نماذج الثورات العربية الثلاث التي انفجرت لأسباب مرتبطة بشكل مباشر بشخص الحاكم قد أفقدت فعليا بلادها الاستقرار والاتزان إلى وقت غير معلوم، وهذا أمر غاية في الخطورة.

والبلدان، كالسعودية، وبقية دول الخليج العربي، التي تنعم باستقرار قريب من الرفاهية لا يجب أن تضحي بهذا المكتسب من أجل اتباع منهج شعوب دخلت مضطرة إلى نفق مظلم هربا من أرض ملغمة.

* أكاديمية سعودية -

جامعة الملك سعود

[email protected]