على أطراف الغابة

TT

سألت أمين معلوف على ماذا يعمل هذه الأيام، فقال إنه كان غارقا في رواية جديدة لكنه توقف، لأنه غير قادر على مقاومة التسمر أمام أحداث المنطقة ومروعات ليبيا. وسألته كيف يشعر حيال عجز الإنسان أمام ما يشهد من فظاظة، وهل أن التاريخ كان دائما في هذه القسوة، فقال إن الكاتب يعاني أكثر من غيره، لأن كل الأحداث تعنيه أكثر من سواه.

أسررت إليه أن ما نشاهده كثير على فرد واحد. ثمة ظلم مريع، فاقع، متعمد، وعالم يتذرع بذهوله. ولا أدري لماذا يشعر الكاتب (وهل هو وحده؟) بعقدة الذنب. ليس قادرا على شيء. ليس قادرا على حمل ضمادة إلى الذين تفجرهم المدافع. يقول كولن ولسون إن رومانسيي القرن التاسع عشر فزعوا إلى الخيال، هربا من عالمهم المتوحش، من أجل أن يحافظوا على توازنهم العقلي.

كان يسمي هذا التخيل «تعويضيا»، أو بدلا عن العالم الخانق الذي يطبق علينا بمشاهد الزور والتنكيل بالضعفاء. أقول الخيال، لا الحلم. فقد تعلمنا من التجارب أن أحلامنا مربوطة بذيل الخيبة. وتعلمنا أن الأفظاظ يحرسون عالم الأحلام ويمنعون الدخول إليه ويرفعون على أبوابه شعار «كل من يحلم غبي». لذلك، مثل الأطفال، نهرب إلى عالم متخيل. أو نطفق في البرية، مثل والت ويتمان، حيث لا شيء سوى الشجر والعشب. الأشياء البسيطة والنبيلة. الصمت والسكينة.

هربا من عالم مفترس، ضوضائي، صاخب، وملوث بالنار والدماء. حيث لا صراخ ولا صخب ولا جدل ولا قتال ولا كارهون. أتذكر ويتمان على أطراف الغابة: «أنا هو الإنسان. لقد عشت وتألمت. وكنت هناك، أشهد هدوء الشهداء وسكينتهم». ولكن هل الصمت حقا هو الملجأ؟ ألم يقل هنري ميللر، أن لا شك للوجود إلا التعبير؟ أليس من أجل ذلك أعطيت ورقة وقلما؟ من أجل أن تكون مع الحق ولو خسر، ومع الحقيقة ولو ربح الزور؟

أفكر هذه الأيام في ما كتبه صديقي الدكتور عائض القرني للعرب: «لا تحزن»! ثم تطل علينا مشاهد الخيبة وصور الجبروت منكلا بالأهل والأصدقاء. وصوت الجبروت متحدثا عن الجمر والنار والكلاب. وكأنما قدرنا حرب واحدة هي الحرب الأهلية تنتقل من مكان إلى مكان. وما بين التسمر أمام هذا المشهد اليومي واللجوء إلى البرية وصفائها، لا يدري المرء أين يبحث عن توازنه وعن أمله.