فتاوى المظاهرات

TT

يعكس الجدل الديني القائم هذه الأيام حول شرعية المظاهرات والمسيرات موقفا سياسيا باطنا، وخيارات مستقبلية كبرى.

هيئة كبار العلماء في السعودية، وهي أهم جهة دينية رسمية في البلاد، أصدرت فتوى مفصلة ضد سلوك المظاهرات، أقرب إلى البيان الحاسم والموقف الديني الواضح تجاه «نازلة» من النوازل السياسية التي تمر بها البلاد.

موقف الهيئة، ومعها جملة من المشايخ السعوديين نشروا فتاواهم في الصحف والمواقع السعودية، قوبل بموقف فقهي ديني مناهض، من أنصار المظاهرات وشرعية التظاهر والاعتصام والمسيرات، من قبل فريق آخر من صحويي السعودية يملكون خيارا سياسيا ورؤية مناهضة. فأصدر بعض هؤلاء الإسلاميين فتاوى تشرع للتظاهر وتسوق الحجج على أن المظاهرات أحل من ماء المطر.. وساندهم في ذلك مؤخرا الداعية حامد العلي، الخطيب الكويتي المعروف بتحمسه لـ«القاعدة» والجهادية السلفية.

في مصر أيضا جرى ويجري جدل حول طبيعة ودور المؤسسة الدينية، وكان أحد رموز التيار الفكري الدائر في فلك الإخوان المسلمين - وهو سليم العوا - قد أصدر كتابا في هذا الخصوص قبل فترة بعنوان «مأزق المؤسسة الدينية»، وخلاصته النعي على عدم انخراط مؤسسة الأزهر في مساندة الرؤية التي يرتضيها «الإخوان» لدور رجال الدين الرسميين (في التعليم والقضاء والوعظ والخطابة وإمامة المسجد).

هناك صراع واضح لتوجيه مسار الفتوى وبوصلة المؤسسة الدينية في العالم الإسلامي؛ فتيارات الإسلاميين المعارضين، خصوصا «الإخوان» طبعا، تريد تولي دفة هذه المؤسسة لصالح رؤيتها. بينما ترى السلطات والدول - أو «ولاة الأمر» حسب اللغة الفقهية المعتادة - أن العلماء والمؤسسة الدينية شركاء ومساندون للاستقرار والتفرغ للتعليم والقضاء والخطابة، وإدارة الاستقرار نفسه. ولعل الكبيرين الراحلين في السعودية، المفتي عبد العزيز بن باز والفقيه محمد بن عثيمين، هما أبرز الشخصيات التي أدارت وحمت الاستقرار الديني، وهذبت الغصون الناتئة في التيارات الدينية السعودية. بل إن الراحلين كانت لهما فتاوى ومواقف واضحة ضد المظاهرات أثناء اشتداد الثورة الصحوية ضد الدولة إبان غزو صدام للكويت. بعد ذلك جرت في الساقية مياه كثيرة، جاء الإنترنت وملحقاته في الاتصالات، وتغيرت مواقف صقور الصحوة بالأمس وتحول كثير منهم إلى حمائم، قبل أن يقرر بعضهم العودة إلى وكور الصقور هذه الأيام رغم أن أجنحة الصقور قد أصابها الوهن وبهت ريشها!

باختصار، حكم التظاهر وجوازه أو عدم جوازه، وكذلك المسيرات وغير ذلك من التفاصيل الفقهية، ليس هو المهم في هذا السياق، بل المهم هو الذهاب إلى ما خلف السطح الفقهي وإلى اللب السياسي. هناك اشتياق لدى جمهرة من الإسلاميين للعودة إلى مربع التسعينات الانتفاضية، وامتشاق تويتر المعارضة بعد كاسيت التثوير في التسعينات.

القصة هنا ليست فتاوى بريئة، بل مواقف سياسية، فمن هو مع الاستقرار وعدم انتقال النار الليبية أو التيه المصري يقول بحرمة التظاهر، ومن هو مع التثوير وفتح أبواب المجهول، فهو ضد ذلك ويقول بجواز التظاهر.

كما أن القصة ليست حقوق إنسان بالمفهوم الدولي، فحامد العلي ليس من أنصار حقوق الإنسان بالتأكيد ولا من محبي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أيضا.. ومع ذلك فقد استبدت به الحماسة فجأة لحقوق الإنسان.

[email protected]