لو أراد الله نسلا لأوجده من الحجارة

TT

جلست مع اثنين وأنا بالطبع ثالثهم، كانا يتناقشان في حدة وصخب على موضوع واحد، وكل منهما يقف ضد الآخر في نظرته لذلك الموضوع، فيما وقفت أنا على الحياد أقلب نظراتي وسمعي بينهما دون اتخاذ أي موقف، لا عن ترفع أو تأدب، ولكن عن قلة حيلة، ومحدودية فهم واستيعاب لما يخوضان فيه.

كان الأول وهو لبناني مع تحديد النسل، والآخر سعودي مع إطلاقه.

فقال الأول: تخيل أن عدد سكان العالم كان في بداية القرن العشرين لا يزيد على (1700) مليون نسمة، وأن هذا العدد لو ظل اليوم في القرن الواحد والعشرين كما هو، لما اختل توازن العالم إطلاقا، بل إن (1700) مليون متحضر ومتعلم أفيد وأصلح للإنسانية من (7000) مليون، ثلاثة أرباعهم جياع وفقراء وجهلة ومرضى ومتخلفون وعاطلون، إن العالم بهذا التقدم العلمي الهائل سوف يكون أكثر إمتاعا، وأكثر هدوءا، وأكثر نظافة، وأكثر (ديناميكية).

رد عليه الثاني: هذا ليس صحيحا، فكثرة السكان لم تمنع بعض الدول من التقدم، وانظر إلى اليابان وإيطاليا في عشرينات القرن الماضي، وكيف كانتا تشجعان على زيادة السكان، إلى درجة أنه كانت تفرض ضرائب على رجل أعزب يتراوح عمره بين الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين، بل إن هذه الشرعة كانت من أيام (القياصرة) الذين كانوا يحرمون الأعزب من امتلاك الأرض التي يستولي عليها بالحرب ويحرم من الميراث، بل هل تعلم أن أكبر عقاب ينزل على (العزاب) في عهد (الأسبرطيين) أنهم كانوا يحكمون عليهم بأن يسيروا في الأسواق متجردين من ثيابهم لكي يقاسوا من شدة البرد والخجل والمهانة؟!

فأي جرم اتخذه (ماو تسي تونغ) في حق الإنسانية عندما حدد لكل عائلة طفلا واحدا؟!، وأي شناعة و(سادية) عندما أمرت (أنديرا غاندي) في مرحلة ما (بإخصاء) الرجال؟!

وتطور النقاش أو تحرّف بينهما، فأحدهما ينتصر للعزوبية، والآخر ينتصر لمؤسسة الزواج.

فقال الأول: إن الأزواج مع أبنائهم الرضع يندر أن يناموا ليلة كاملة أو ينعموا بقضاء إجازة سعيدة، واسمح لي أن أقول لك: إن الزوج هو رجل فقد حريته بحثا عن السعادة.

فرد عليه الثاني وقد استشاط غضبا: ولكن لا تنس (يا حضرة) أن العزاب وكذلك الأزواج الذين يقررون عدم الإنجاب محرومون من لذة ضم الأولاد إلى الصدور ومعانقتهم، أو دسهم في الفرش ولفهم بالأغطية ليلا، وتفوتهم متع مشاهدة الولد وهو يكبر، كما تفوتهم متعة ملاعبة الأحفاد، فرد عليه الثاني بغضب قائلا: (طز).

وعندما خشيت من أن النقاش قد يصل إلى ما لا تحمد عقباه تدخلت في الموضوع قائلا: إنني من أنصار طائفة (المترنحين) shakers، هل تعلمون ما هي؟! فسألاني بلهفة عنها، قلت لهم إنها طائفة بدأت في أواسط القرن التاسع عشر، والمفارقة أنها اتخذت لها موطنا في بلدة صغيرة اسمها (لبنان الجديد) وهي ليست بعيدة عن نيويورك، وكان عددهم في ذلك الوقت يقدر بعشرات الآلاف، ولهم صلواتهم وطقوسهم الخاصة، ومن تعاليمهم أنهم لا يتزاوجون أبدا، وحجتهم في ذلك هي: أن الله إذا أراد نسلا لأوجده من الحجارة، ولم يأت عام (1900) حتى أصبح عددهم (1500)، وجرى لهم إحصاء في عشرينات القرن الماضي بلغوا فيه (500)، وفي عام (1942) توفي آخر فرد منهم - أي إنهم انقرضوا نهائيا (وريحوا وارتاحوا).

سألاني: هل معنى ذلك أنك من أنصار تلك الطائفة؟!

قلت لهم لكي أنهي النقاش: إنني لا مع ولا ضد. إنني مع نفسي فقط، غير أن دعواتي هي: أنني أتمني أن لا يحل بأهل لبنان القديم ما حل بأهل لبنان الجديد - رغم أنني أعرف أهل لبنان تماما، فهم ما شاء الله لا ينقصهم شيء لا من حيث حبهم للتناسل ولا من حيث حبهم للحياة - ولكن قد تكون للظروف أحكام.

[email protected]