لكي لا يضيع «الإصلاح المطلوب» في زحمة الشعارات

TT

نقطع الطريق - في البدء - على المزايدات بالتوكيد اليقيني على أننا منحازون إلى التطوير والإصلاح والتجديد.. وهذا الانحياز مؤسس على «قناعة منهجية»، لا على التأثر بهذا الشعار أو ذاك.. ومن حق القارئ ألا يقتنع بمنهجنا هذا حتى نقدم له هذا الدليل.

أولا: دليل السنة الكونية أو الحياتية العامة. فقد أقام الله - عز وجل - الحياة على سنة التطوير والتجديد.. والبرهان على ذلك: أن الحياة البشرية منذ نشأة الأسرة الصغيرة (آدم وحواء وأبنائهما المباشرين) قد تطورت ألوف المرات في صيغ وقوالب وعلاقات شتى: من الكهف والصيد والرعي وتدجين البهائم إلى الزراعة والقرية ثم المدينة وشبكة المدن.. ومن المصباح العادي إلى الكهرباء، ومن النفخ في الكير إلى الصناعات الكبرى.. ومن نقل البريد بالإبل والحمير إلى عصور المواصلات والاتصالات الحديثة.. ومن الرمي بالمنجنيق إلى منظومات الصواريخ العابرة للقارات.. ولو بقيت الحياة البشرية في صورتها الأولى البدائية، لما قامت الحضارات الرائعة المتتابعة. ذلك أن الله - خالق الإنسان والحياة - لم يشأ أن تظل الحياة البشرية في تلك الصورة البدائية الأولى. بل شاء - كما تحدث في كتابه - أن يتفنن البشر في عمران الأرض والحياة تفننا يتمثل في فنون المعمار، وأساليب الحياة، ونظم الدول والمجتمعات: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»، أي جعلكم عمارا للأرض في الصيغ التي تبدعونها أنتم.

ثانيا: دليل «السنة الدينية». ونلتقي بهذا الدليل الصريح الساطع الجميل في حديث نبوي صحيح هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها».

وهذا نور على نور.

فإذ يشترك المسلمون مع سائر البشر في السنة الكونية للتطوير والتجديد، فإن الهدى الخاص المزيد - ها هنا - هو «سنة التجديد الديني» - بالمفهوم الكلي للتجديد - ومن المفاهيم التي ينبغي استنباطها في هذا السياق: مفهوم أن «التجديد الإسلامي» إنما هو «تجديد دوري»: كل مائة عام، وليس في العمر مرة واحدة.. ويشمل هذا التجديد الدوري «الأمور التشريعية» بالتوكيد، إذ لا تجديد في الاعتقاد والعبادة - إلا من حيث العرض فحسب - وهذا التجديد التشريعي هو ما يسميه الشاطبي بـ«الاجتهاد التشريعي». وما يسميه ابن تيمية بـ«الشرع المؤول».

وفق هذه القناعة المنهجية، نحن منحازون إلى التطوير والإصلاح والتجديد: في السراء والضراء، في الرخاء والشدة، أي بغض النظر عن ملابسات الظروف.

خلاصة المحور الآنف أنه ينبغي انعقاد الإجماع على أن «الإصلاح والتطوير والتجديد»، ليس قرارا سياسيا فحسب، بل هو مع ذلك - وقبل ذلك - سُنة كونية عامة في الحياة البشرية، وسنة دينية خاصة بالمسلمين - وهما سنتان متكاملتان متناغمتان - تنفعان من يباشرهما بحرص ووعي.

وبالانتقال إلى الواقع العملي، يتبدى نوعان من الأنظمة السياسية تجاه هذا الإصلاح والتجديد:

1) نظام أو وضع يصل - بصنع يديه وطبيعة أفعاله - إلى طريق مغلق، تنسد معه كل خيارات الإصلاح وفرص التجديد والعلاج. فليس أمام الناس - والحالة هذه - إلا إزاحته.. وقد ينشأ سؤال: هل ثمة أنظمة؟.. هل ثمة بشر يفعلون هذا فيجلبون التعاسة والنحس على أنفسهم؟.. والجواب: نعم. هناك ناس من الناس يهرولون إلى هذا المصير التعس: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».. وفي التاريخ البشري، والواقع الإنساني الراهن نماذج عديدة من هذه المصائر التعسة.

2) ونظام أو أنظمة لا تزال فرص الإصلاح وآفاق التجديد أمامها واسعة ومفتوحة وواعدة.

وهنا يتعين طرح السؤال التالي: هل يمكن إجراء إصلاح وتطوير وتجديد في ظل الأنظمة القائمة.. نعم (باستثناء الأنظمة التي وصلت إلى طريق مسدود فهلكت).. وهذا الجواب مسنود بشرط.. وبتجربة.

أما الشرط فهو: أن تكون «الأسس» التي قامت عليها هذه الأنظمة صحيحة من حيث المبدأ. فإن الخطأ في التطبيق يقوّم ويعالج بالرد إلى الأساس الصحيح؛ ردا صادقا حازما ناجزا.

وأما التجربة فهي «التجربة الأميركية».

متى أقر الدستور الأميركي؟

أقر عام 1791، أي منذ 220 سنة تقريبا.

هذا الدستور لم يغير كله تغييرا يضاهي «التبديل»، ولكنه عُدل مرات عديدة اقتربت من الثلاثين تعديلا. لماذا كان التعديل، ولم يكن التبديل؟

كان التعديل لأن الحياة أتت بقضايا ومفاهيم وعلاقات جديدة كان لا بد من أن يتضمنها الدستور حتى تكون في مستواه من حيث التوقير والمهابة والإلزام والإنفاذ.

وكان التعديل لأن ثمة فقرات أو مفاهيم دستورية قد تخطاها الزمن، وكادت تكون «قيدا» على حركة الدولة والمجتمع ونشاطهما.

وكان التعديل لأن الدستور الأميركي «فكر بشري» في التحليل النهائي. والفكر البشري مهما تألقت رؤيته فإنه يتقادم. وهنا ندرك حقيقة ما نص عليه الحديث النبوي الآنف عن تجديد الدين كل مائة سنة، ذلك أن الاجتهادات المبدعة نفسها في الدين تتقادم بسبب الظروف والقضايا الجديدة في الدولة والمجتمع والعالم.

ثم لماذا لم «يتبدل» الدستور الأميركي بالكلية؟.. لم يتبدل لأن فيه من النفائس ما ليس من العقل ولا من المصلحة تبدليه.

ومما يلحق بهذا؛ تجربة أميركية أخرى أيضا، وهي تجربة يمكن تسميتها بـ«الإحساس الإيجابي بالمخاطر».. وهذا الإحساس سلوك ممتاز، بل ممتع ومفيد.. مثلا: حين سبق السوفيات الأميركان في ارتياد الفضاء في أواخر خمسينات القرن الماضي.. خرج الرئيس الأميركي، يومئذ، مرتفقا الإحساس الإيجابي بالخطر، خرج ليخاطب أمته فيقول: «إن أمتنا تواجه تحديا تاريخيا وحضاريا، وهو أنه غير مسموح لخصمنا بأن يتفوق علينا في أي مجال. وأقول لكم: إنه تفوق علينا الآن في الفضاء. وهذا تهديد علمي وحضاري لأمننا القومي. وأقول لكم: إننا نحن الأميركيين مسؤولون عن ذلك بتقصيرنا المميت في حقل البحث العلمي. وأقول لكم: إن مستقبلنا مرهون بإصلاحات ذاتية جوهرية تتمثل في إصلاح حقيقي لنظامنا التعليمي والعلمي.. وعلى جامعاتنا، ومراكز البحث العلمي، أن تتقدم الصفوف في هذا السباق الذي لا نتصور أميركا عظيمة دون الفوز فيه».

والدرسان الكبيران هنا:

أ) التمكين المتعمد للإحساس الإيجابي بالمخاطر من الوعي والشعور والتفكير والاهتمام على نحو يرفع همة الفعل.

ب) أن الاستجابة الإيجابية لهذا الإحساس تمت في ظل النظام الأميركي القائم.

وخلاصة الخلاصة:

1 - أن الإصلاح والتجديد ضرورة وليس ترفا.

2 – أن الإصلاح متاح في ظل النظام القائم.

3 - أن الإصلاح في صالح الأنظمة ذاتها قبل أن يكون تلبية لضغوط داخلية أو خارجية.