انزلوا من الـ«فيس بوك».. اهبطوا مصر

TT

القائمون على الحكم في مصر فهموها غلط، طردوا الناس من ميدان التحرير، فإلي أين سيذهب هؤلاء؟ سيتركون عالم ميدان التحرير، العالم الواقعي بكل ما يحمل من هموم الدنيا الحقيقية ومأساة الإنسان المصري، ويعودون ثانية إلى العالم الافتراضي، إلى الشبكة العنكبوتية، وإلى الـ«فيس بوك». أنا أطالب الشباب بالعكس، خصوصا بعد الثورة، أي أن ينزلوا من العالم الافتراضي، «بتاع الـ(فيس بوك)»، إلى أرض الواقع، ولي في ذلك أسباب أظنها جادة، وهنا أتحدث بالتحديد عن مصر بخصوصيتها، لا عن بلدان أخرى، وأتحدث عما بعد الثورات، لا ما قبلها، كما حدث في مصر وتونس، البلدين العربيين اللذين أنجز فيهما ما يمكن تسميته نصف ثورة.

ربما الفكرة ليست واضحة، فلو كتبت هذا المقال بالإنجليزية كان أسهل وأوضح كثيرا، ويمكن اختصار المقال في جملة واحدة: لنتوقف عن الـ«فيس بوك» ونبدأ «فيسنغ إيتش أذر» facing each other، أي لنبدأ نواجه بعضنا البعض على الأرض لا في الفضاء. بمعنى أن النشاط السياسي في العالم الافتراضي ربما كان أساسيا قبل الثورة أو في الدعوة إليها، ولكن بعد الثورة لا بد أن ننزل من الفضاء الإلكتروني إلى أرض الواقع، ننزل من العالم الافتراضي إلى العالم الحقيقي. فما بعد الثورة، أي ثورة، أخطر بكثير من الثورة ذاتها. فبلطجة الحزب الوطني يوم الأربعاء الدامي في موقعة الجمل، تبدو لعب عيال بالنسبة لبلطجة ما بعد الثورة. وعمار مصر ما بعد الثورة لن يحدث في العالم الافتراضي، العمار عمار الوطن وعمار النفوس، يحدث على أرض الواقع.

لذا أدعو من يفضلون النشاط السياسي الإلكتروني على الـ«فيس بوك» أن يمارسوا نشاطهم السياسي على أرض الواقع، أن يلتقوا وجها لوجه مع الوطن (فيس تو فيس) face to face مش الـ«فيس بوك»، لمواجهة حقيقية لمشكلات مصر ما بعد الثورة التي هي أخطر من الثورة ذاتها.

الـ«فيس بوك» ليس جديدا كما يتصور البعض، لكنه قديم قدم الإنسان، وهذا ليس بادعاء بقدر ما هو حقيقة واضحة كالشمس لو تأملناها قليلا. الـ«فيس بوك» كان هو فضاء الحرية في مصر في مجتمع مغلق سياسيا واجتماعيا، كان العالم الافتراضي بالنسبة للشباب المصري هو المتنفس، الهروب إلى عالم متخيل يسمح لنا برؤية الواقع بشكل أفضل، أو أحيانا يبعدنا عن وضاعة الواقع، يخرجنا من عالم الانكسار والاحتقار الذي كنا نحياه في مصر في عهد مبارك ومن سبقوه، إلى عالم أكثر نظافة، أكثر إنسانية، أو في أسوأ الأحوال أقل قبحا. ولكن إلى أي «فيس بوك» كان يلجأ البشر المتظلمون قبل التطور التكنولوجي وهم يرزحون تحت الديكتاتورية أو الظلم أو الطغيان، في روسيا ستالين، في ألمانيا هتلر، في فاشية فرانكو وموسوليني؟ كان الناس في أوروبا يهربون إلى العالم المتخيل، إلى الشعر، وإلى الرواية وإلى الآداب المختلفة، إلى عالم المثل والجمال في لوحة فنية، كانوا أيضا يهربون إلى الله، إلى الدين، كان الإنسان يعيش في رأسه وفي خيالاته ينسج عالما مقبولا يساعده على الاستمرار في الحياة، تحت وطأة الظلم.

متى ما أنجزت الثورات كان الشعراء والفنانون يعودون إلى عالم الواقع لكتابة دساتير الحرية، لكتابة الماجنا كارتا، لكتابة الدستور الأميركي والفرنسي، لبناء عالمهم الجديد، على أرض الواقع، بيوتا على الأرض، لا أبياتا في قصيدة. ومن هنا أقول للشباب الذين قبلوا دعوة حكام مصر بالخروج من ميدان التحرير وذهبوا إلى الـ«فيس بوك» كبديل عن الواقع: إن الواقع أهم، وإن مصر الأرضية لا مصر الفضائية هي التي تحتاج إلى مجهوداتهم.

لم يكن الغرب كله شعراء حالمين وهاربين من الواقع إلى فضاء الشعر والرسم، كان الذين يعيشون في العالم الافتراضي في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر وربما العشرين، كانوا قلة ونخبة، تبتعد لكي ترسم صورة أوضح وأجمل لمستقبل آت، صورة تتبناها الجماهير. ولكن ما يحدث اليوم أننا نهرب بالملايين إلى العالم الافتراضي، أي إن الأحلام والعوالم المتخيلة أصبحت كلها في متناول العامة كأي سلعة استهلاكية، وهذا قد يفقد الأحلام جديتها وزخمها وقدرتها على التوجيه والتأثير.

ما بعد الثورة أخطر بكثير مما قبلها، بل من الثورة ذاتها، لذا أدعو المصريين للعودة إلى عالم الواقعية لا عالم الأحلام، العودة من عالم الافتخار على «النت» وعلى الـ«فيس بوك» تحديدا إلى عالم الـ«فيس تو فيس»، لأن مصر تحتاج ناسها أكثر مما تحتاجهم الشبكة العنكبوتية. فانزلوا من العالم الافتراضي واهبطوا مصر رجاء.