الجمهورية الإسلامية في البحرين

TT

«هذا الحلو كاتلني يا عمة» مطلع أغنية عراقية مشهورة. هل الثورات العربية مثل أغاني العرب، تحب الجميل إلا أنه قاتلها في نفس الوقت، أي أن التصور المثالي لما يمكن أن تحققه الثورة أو الانتفاضة قد يأتي بالقتل والدمار وخراب الأوطان، أما معنويا، كإشاعة الفوضى، أو حقيقة، كقتل الناس في الشوارع والميادين.

أي وجود الحلو والمر على سطح واحد، بالضبط كالأغاني العربية!.

أفهم أن تؤدي الثورة الفرنسية في العقد الأخير من القرن الثامن عشر إلى فوضى، المجتمع وقتها لم يكن يملك أدوات التواصل التي نعرفها اليوم، فما كان يحدث في وسط باريس يصل إلى أطرافها بعد أيام. وأفهم أن تؤدي الثورة البلشفية في الربع الأول من القرن العشرين إلى فوضى، حيث لم يكن هناك أدوات اتصال غير أجهزة اللاسلكي متوسطة الطول. أما أن تخلف «الثورات» أو «الانتفاضات» العربية اليوم، في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، مثل هذه الفوضى المتفاقمة! مع وجود كل أدوات الاتصال المتوفرة، ومع صعوبة إخفاء الحقائق، ومع وجود بشر يفكرون بعيدا عن العواطف الجياشة، فذلك ما يستعصي على الفهم، هل الانتفاضة متناقضة مع التفكير السليم؟

في مصر شيء من الفوضى بعد كل ما حصل، كل فئة اجتماعية تريد أن يتحقق لها ما تصبو إليه الآن وفورا، وكل فئة اجتماعية تريد أن تأخذ - وبيدها لا بيد غيرها - ما تراه مستحقا. يقوم البعض بحرق كنيسة يرون، هم لا غيرهم، أن مكانها غير مناسب!! ويتظاهر الأقباط لأن حقوقهم مهدرة منذ زمن طويل، يريدون تحقيقها في التو واللحظة فيقتل العشرات بحجم ربع ما قتل أيام الثورة نفسها. بجانب ذلك هناك عدد كبير من القطاعات الاجتماعية التي ترى أن الثورة تعني تحقيق مطالب فئوية والآن، فإن لم تتحقق عليكم أخذها من المجتمع بقوة الذراع. يحدث هذا أيضا في تونس فيقتل رجل دين مسيحي مسالم ويهجم على منازل آمنة.

أما في البحرين، فإن الطامة أكبر وأعظم، ليس دعوة الإصلاح وتطوير النظام السياسي هي المطلوب، وليس النظر إلى مطالب فئات محرومة من كل الطوائف حان أوان إنصافها هو المأمول. لا، المطلوب هو أن تنشأ دولة ذات نظام جديد هي «الجمهورية الإسلامية البحرينية» سمعت على الـ«يوتيوب» بيان الإخوة المطالبين بالجمهورية الإسلامية. ملاحظاتي أن المفردات المستخدمة هي مفردات تستخدمها قوى لها علاقة علنية بطهران سياسيا، كالقول «يا أحسن الناس.. يا أشرف الناس»، إلى آخره من المفردات المعروفة لمتابعي ما يحدث في لبنان، أي أن المطلوب إنشاء جمهورية إسلامية ذات طابع شيعي في البحرين!! وبقية المواطنين ما رأيهم في ذلك؟. المغرق في السريالية، أن رد أحدهم على الاقتراح المزايد بمزايدة مثلها، أي بإقامة الخلافة!!

هل هذا ما تريده الشرائح المختلفة في البلاد، أم هي فنتازيا سياسية في ثوب آخر يستفيد من الفوضى العارمة في المنطقة بزيادة الفوضوية والذهاب إلى سقف غير مقبول من شرائح واسعة من الشيعة والسنة على السواء في البحرين، فقط من أجل القول للسادة الكبار إننا نستمع إليكم ونقوم بما تنصحون به!! ونأخذ البسطاء كيف نشاء!!

إشكالية العقل العربي أنه يرى التماثلات الخارجية في الأشياء، ولا يرى الأسباب الكامنة في صلب الأحداث. دعوني أضرب مثلا لما أريد أن أصل إليه. الأصل في كل هذا الحراك السياسي العربي من المحيط إلى الخليج، هو ما حدث في مدينة سيدي بوزيد، ذلك الإنسان الذي عرفه الناس باسم البوعزيزي، والذي نالته صفعة القهر في تلك المدينة من شرطية تعمل في البلدية، فقتل نفسه. دعونا لفترة قصيرة نتصور سيناريو آخر كان يمكن أن يحدث. يستشيط البوعزيزي غضبا، ثم يختطف تلك الشرطية، صاحبة الصفعة ويهدد بقتلها أو ربما يقتلها. وقتها ستتحول الحادثة لو حدثت إلى «عملية إرهابية» كآلاف غيرها، ولا تحرك ساكنا. التعاطف الضخم الذي وجده البوعزيزي من شعبه ومن الناس، هو أنه قتل نفسه لأنه شعر بالظلم. الناس تتعاطف بقوة مع هذا الفعل الذي جعل السيد زين العابدين بن علي، وهو رئيس يضطر للذهاب إلى المستشفى الذي يلفظ البوعزيزي أنفاسه الأخيرة فيه، نتيجة التعاطف الذي أرسله في الجو السياسي التونسي. التجمع في ميدان التحرير المصري تعاطف الناس معه لأنه أصر على أن يكون التحرك سلميا، مهما حدث من ردود فعل، رغم فقدان الضحايا والعدد الضخم للناس الذين وجدوا في الميدان، فإن الحفاظ على الأمن والحراك السلمي، كان هو محط تعاطف الناس ودعمهم. والقول بجمهورية إسلامية شيعية في البحرين هو خروج عن المنطق وإلحاق بالآخرين بامتياز. الأهم هو إسلاخ سريع للتعاطف، لأن الهدف أصبح ظلم الآخرين لا إنصاف النفس.

تقليد الانتفاضات - مع الفارق - يحدث في البحرين، على الرغم من النداء إلى حوار، وهي فرصة لمن أراد الإصلاح، أن يتقدم برؤاه، نجد أن القلة تريد أن تأخذ الأغلبية إلى «جمهورية إسلامية» على شاكلة ما حدث في الجارة إيران، وكأن الأخيرة قد حققت الأمن والتنمية والتوافق والحل السحري لمشكلات البشر، والكل يعلم المشكلات العميقة التي تواجه الجارة، وربما تريد، أو يريد بعض أجهزتها، صرف النظر عن تلك المشكلات العميقة بتصديرها إلى الجوار لتحقيق مكاسب إعلامية، منها الإعلان عن جمهورية البحرين الإسلامية! حتى لو كانت على الـ«يوتيوب». لقد انكشف المستور، لا مطالب معيشية ولا حتى سياسية، هي مطالب إلحاقية في وضح النهار. وما عرف قصده عرف دواؤه.

التاريخ، كما الأحداث لا تكرر نفسها، وإن تكررت - كما تقول المقولة المشهورة - فإنها تتكرر في صورة هزلية.

آخر الكلام:

خطاب الملك محمد السادس الذي قدم فيه حزمة من الاقتراحات لإصلاح الهيكلية السياسية في المغرب، خطاب ينم عن قدرة على قراءة واعية للأحداث وتصويبها باتجاه مصالح الناس، إنها انتفاضة ناعمة وذكية أيضا، تقطع الطريق كليا على المزايدين وتنأى بالمغرب بعيدا عن الفوضى.