الاجتثاث المصري بعد العراقي

TT

سواء كان يدري الذين أحدثوا الخطوات الأولى على طريق التغيير في مصر أنهم يحولون أنفسهم إلى «مراكز قوى»، مثل «مراكز القوى» في زمن الحقبة الناصرية، و«مراكز القوى» التي حلت محلهم في الحقبة الساداتية، و«مراكز القوى» في الحقبة المباركية، أو أنهم لا يدرون، ففي الحالتين ينطبق عليهم قول الشاعر:

إن كنت لا تدري فتلك مصيبة

أو كنت تدري فالمصيبة أعظم

فما يحدث هو عمليا نوع على درجة من الرقة من أسلوب أخذ مداه في العراق بعدما أسقطت الولايات المتحدة الحكم هناك، ثم أدار بلاد الرافدين بول بريمر السيئ الذكر، وكذلك في السنوات التي تعاقب عليها ممثلو «الديمقراطية البوشية»، التي حولت العراق إلى ظاهرة مأساوية على مدار الساعة. والأسلوب الذي نعنيه هو «سياسة الاجتثاث»، أي إلغاء رموز ما قبل 25 يناير (كانون الثاني) 2011. وحيث إن حقبة ما قبل التاريخ المشار إليه حافلة بمئات الأسماء والوقائع والملفات، فهذا يعني أن تبقى «سياسة الاجتثاث» تتواصل، وكلما اتسع نطاقها، انقسمت مصر بين رؤيتين؛ رؤية يتطلع المقتنعون بها إلى أن تهدأ «المشاعر الثورية»، وتبدأ مصر بلملمة نفسها، كي لا يصل الأمر إلى وقت تصبح فيه «سياسة الاجتثاث» حالة ثأرية تؤسس لحالة مماثلة, ورؤية عنفوانية، تجعل أصحابها، «شباب الثورة»، يمعنون في المطالب، مستندين في ذلك إلى أنهم ما داموا نجحوا في تحركهم، وأسقطوا من هو في القمة؛ فلماذا لا يكملون التحرك في اتجاه الحلقات الأضعف، واضعين «فيتو» على هذا، و«فيتو» على ذاك، ودعوة عاجلة إلى من يترأس الحكومة أن يعتبر نفسه من المجتثين، وعليه التصرف وفق ما استقر عليه رأيهم، وهو أن يلملم هذا الذي أدار الدفة كرئيس للحكومة أوراقه ويرحل، على أساس أنه من الماضي غير البعيد، ومن دون أن يكون اقترف ذنبا محرما ارتكابه بموجب قوانين «شباب الثورة»، التي هي عبارة عن خلاصة دردشات بين طيف وآخر.

على «شباب الثورة» أن يخلدوا إلى السكينة وإلى الأخذ في الاعتبار أنهم، حتى إذا اختاروا من بينهم من يترأس ويتوزر؛ فإنه لن ينجح بالعنفوان، ذلك أن مشكلات مصر ليست من النوع الذي يمكن حله فقط من خلال «الشعب يريد إسقاط النظام»، وإنما من خلال إسقاط مبدأ الغلبة، أيا كان الغالبون.

وثمة مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الماضي موجود من خلال طيفه العسكري، وهو الذي حمى شباب الثورة، كما أنه هو الذي يمسك بمقاليد الأمور، وهو الذي يمارس، من خلال ضبط النفس، ما يجعل «شباب الثورة» يواصلون التموج في الساحة. وإلى ذلك، فإن أهم ما في الماضي، ونعني به معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، كان طوال جولات «ميدان التحرير» خارج المطالب وخارج الهتاف، ثم استمر في الهامش، وبات لا مجال للجدال في شأنه، بعدما أعلن «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» احترام الاتفاقات والمعاهدات الدولية. ومن الطبيعي في هذه الحال أن لا ينبري «شباب الثورة» إلى «جُمعة» من «الجُمعات» التصعيدية، برفع مطلب تعديل المعاهدة المشار إليها أو إلغائها، وتغيير أي سلطة تتبناها، لأن معنى ذلك أن الـ«شباب» هنا يطالبون بـ«مجلس أعلى» آخر، باعتبار أن جنرالات المجلس الحاليين، بدءا من رئيسهم، المشير محمد حسين طنطاوي، ورئيس الأركان، الفريق سامي عنان، هم من الماضي الذي استمر، حتى لحظة ما قبل التخلي من جانب مبارك، ملتزما بالرئيس. وفي المشهد الحاضر في الذاكرة، داخل غرفة العمليات، قبل يومين من التخلي ما يوضح قولنا.

بعد تغيير حكومة أحمد شفيق، التي حققت انفراجا نسبيا، والإتيان بصديق «الشباب الثوار»، عصام شرف، رئيسا لحكومة جديدة يرضى عنها الـ«شباب»، من مصلحة «شباب مصر» طي سياسة الاجتثاث، واعتبار قدرتهم على تعيين من يريدون رئيسا للحكومة هي آخر حلقة في ممارسة الضغوط، ذلك أن الرأي العام، الذي ضاق ذرعا بطول بقاء الرئيس مبارك، لأنه لم يتفهم ولم يعتبر، مع أن العِبَر كثيرة، سيضيق ذرعا بهم إذا هم حولوا أنفسهم إلى «مراكز قوى»، كتلك التي أشرنا إليها وكانت من أسباب الهزيمة في الحقبة الناصرية، وأسباب حادثة المنصة في الحقبة الساداتية، ثم من أسباب إسقاط حكم مبارك، وعلى أهون السبل، مع أن استهداف الرجل خلا من جانب «شباب مصر» من أي تشكيك في السلوك الوطني، وأهمه على الإطلاق التسامح الضمني في ما يخص العلاقة مع الولايات المتحدة، والإبقاء على المعاهدة المبغوضة مع إسرائيل في منأى عن الاهتزاز. وكأنما ثقافة الـ«فيس بوك» لدى «شباب مصر» تنحصر في ضرورة التصدي للفاسدين والمفسدين، وللحاكم الذي لا يغادر من تلقاء نفسه، وبعد ثماني سنوات مقسومة على ولايتين، على نحو ما انتهى إليه خيار اللجنة القانونية الدستورية التي عدلت بعض مواد الدستور، ومنها ما يحرم البقاء الطويل ويقطع الطريق على التوريث، ويضع مصر على سكة الاستقرار.. وبما قد يعيد الشأن والدور.