المعارضة بين الاستيعاب والمطاردة

TT

سأروي ما رواه صديق عاد للتو من بلده حيث إن التوجس هو سيد الموقف، والعيون مفتوحة تراقب التحركات وتنصت للهمسات. فكل أجهزة الدولة مسخّرة لإجهاض أي معارضة يمكن أن تفتح جبهة جديدة. ومن جهودها الأخيرة، كما يقول، أنه تم التعميم على جميع محلات أدوات البناء بأن يسجلوا كل من يشتري منهم علب الطلاء، وتحديدا طلاء الرش (البخاخ)، حتى يمكن التعرف على المشتبه بهم عندما يستيقظ الأمن في الصباح ويجد على حائط عبارة تندد بالدولة أو تحرض عليها.

هكذا تفكر هذه الأنظمة القديمة في العصر الحديث بالقبض على الذين يشخبطون على جدران الأحياء بتعابير سياسية يعاقب عليها القانون، وبعض الدول يعاقب الفاعل بالإعدام.

لكن ماذا سيفعلون بمائة ألف رسالة في اليوم الواحد على علبة كومبيوتر أو هاتف جوال صغير؟ كيف يستطيعون حبس عدة ملايين من الناس يطالعون كل يوم هذه الشخابيط التحريضية وإعادة توزيعها؟

هذا التغيير الذي أصاب العالم العربي جرف الجميع في لحظة يأس فردية، اكتشفناه في حادثة واحدة، عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد يوم جمعة في السابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي. بعد بضعة أسابيع سقط بن علي ومبارك وسالت الدماء في ليبيا وامتلأت ساحات صنعاء وتعز والمنامة بالمحتجين.

البوعزيزي مأساة تكررت في الماضي؛ إلا أن المفاجأة هذه المرة أنها كشفت عن عالم عربي جديد لا محل فيه للأفكار القديمة، وما التغيير الذي أصاب مصر وتونس، وهما دولتان حديثتان نسبيا، وأصاب ليبيا رغم أن نظامها شرس ودموي، إلا دليل على ضرورة أن يتخلى الجميع عن دفاترهم القديمة وأن يبحثوا عن حلول معقولة تجسر الهوة بين الجديد والقديم.

لم يعد مفيدا تكميم الصحف والتلفزيونات وحجب مواقع الإنترنت في ظل تعدد وسائل الاتصال، وأهم من ذلك صار مستحيلا عدم التنازل مع اتساع ثقافة الحقوق التي لا يمكن تجاهلها. وبدلا من مطاردة الشباب الذين يكتبون في الظلام على جدران أحيائهم عبارات مناهضة للنظام فإن الحل السماح لهم أن يعبروا عن أنفسهم في النهار وفي الهواء الإعلامي الطلق، وأن يجربوا المشاركة وتحمل المسؤولية في البرلمانات أو مثلها. لا توجد وسائل حكم أخرى ناجعة تمنع الانفجار وتحول دون الزلازل السياسية والمفاجآت المقلقة، حرية التعبير والمشاركة السياسية تجعل النظام يؤوي إلى فراشه أقل قلقا ويعيش عمرا أطول. أما من دون التعبير الحر الذي ترعاه الدولة ستكون هناك أحزاب إلكترونية تحتضنه ومن خلالها توزع منشورات صريحة على الـ«تويتر» والـ«فيس بوك» والمواقع الإلكترونية بإقبال شعبي هائل، ولأن هذه التجمعات لا تحتاج الى تراخيص ولا يمكن مراقبتها أو الرد عليها؛ فإنه يسهل فيها أيضا ترويج الأكاذيب والخرافات، وما هو خارج السياق، التي تصدق كحقائق.

لقد ثبت فشل اعتماد النظم القديمة في إدارة الجمهور، وإدارة الحياة السياسية باللغة والأفكار والوسائل التي سبقت عهد اختراع مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الحديث. هذا الجهل كان سبب مقتل النظام المصري، فهو في أعقاب زلزال تونس وبعد أن سمع عن الدعوات الاحتجاجية؛ فورا أوكل إلى جهاز الأمن القبض على قيادات الإخوان المسلمين، ثم كانت حيرة المسؤولين كبيرة عندما اكتظ ميدان التحرير في القاهرة بعشرات الآلاف من الشباب الذين لا سجل لهم ولا مراجع حزبية. أخفقت السلطة المصرية لأنها لم تفهم التطور الذي حدث في بنية المجتمع ومحركاته، ولم تعرف كيف تلاقيه في منتصف الطريق حتى جاءت لحظة لم يعد يقبل إلا بكل الطريق.

التحدي اليوم صعب لأن التنازلات من دون استعداد سياسي أصعب.

[email protected]