يا شاويش.. صيحة الاستغاثة في الزمن الجميل

TT

هذه المرة، وربما لمرات قادمة، لن أحدثك عما أفكر فيه، بل عما أشعر به من اضطراب وخوف يمنعاني من التفكير الواضح المتماسك وخاصة بعد أن وصلتني الرسالة التالية على بريدي الإلكتروني بعنوان «نصائح من أجل سلامة السير» تقول النصائح:

تجنب السير في مناطق لم تعتدها - تجنب السير ليلا على الطرقات السريعة مثل الدائري والمحور - تجنب السير في الطرق الخالية بل سر في الشوارع المزدحمة نسبيا - تحاش الوقوع في مصائد البلطجية ولا توقف سيارتك لأي شخص، الأفخاخ تتضمن وضع البلطجية لكرسي أطفال في وسط الطريق وبداخله دمية لطفل، أحدث ابتكارات البلطجية يكون عن طريق قذف السيارات بالبيض، في حال تعرضك لهذا الموقف، إياك وتشغيل مساحات الزجاج لأن تشغيلها سيؤدي إلى خلط زلال البيض بالماء ونشره على الزجاج الأمامي مما سيعرضك للتوقف بسبب انعدام الرؤية.

إذا أبطأت السيارة التي أمامك، أو أحسست أنها ستتوقف، تأكد أنك تقف على مسافة كافية تجعلك تستطيع رؤية عجل السيارة التي أمامك (مسافة أمان) - تجنب التوقف في الأماكن المهجورة - تأكد دائما من إغلاق أبواب سيارتك جيدا، ارتدِ حزام الأمان طوال فترة القيادة - تأكد من إغلاق السيارة في المناطق المزدحمة - تأكد من برمجة زر الاتصال السريع على تليفونك المحمول لاستخدامه في حالات الطوارئ - أبلغ أفراد عائلتك المقربين بمكانك بشكل دقيق - حاول الوصول إلى بيتك قبل العاشرة مساء.

انتهت النصائح وبدأ عقلي يطير في هلع إلى الماضي البعيد، أربعينات القرن الماضي، مشاهد من فيلم «غزل البنات» الأستاذ «حمام»، نجيب الريحاني، يقوم بإعطاء دروس خصوصية في اللغة العربية لفتاة صغيرة ثرية، هي ليلى مراد. وذات مساء تتسلل خارجة من قصرها لتقابل شخصا هي على علاقة به أو على وشك أن تقيم علاقة معه، لست أذكر السبب الذي دفع الأستاذ لمصاحبتها في هذا المشوار، الذي انتهى بمقابلتها لشخص في كباريه، بالتأكيد كان رجلا شريرا بدليل أن محمود المليجي هو الذي لعب الدور، يرفض الأستاذ ما يحدث ويطلب منها أن تعود معه إلى البيت فورا، وهنا ينهال عليه العاملون في الكباريه بالضرب وسط قهقهات الزبائن ثم يلقون به في الشارع فيصيح مستغيثا: يا شاويش.. يا شاويش..

كانت هذه هي صيحة الاستغاثة الشهيرة في ذلك الزمن البعيد، والتي تساوي في مفعولها نداء (S.O.S) الذي تطلقه السفن التي على وشك الغرق. عندما تتعرض لخطر في أي مكان وفي أي وقت عليك أن تصيح.. يا شاويش، وعلى الفور سيظهر شاويش (رقيب) أو يخف لنجدتك مخلوق ما، وفي حالة ليلى مراد، استجاب لنداء الاستغاثة شاب وسيم هو أنور وجدي الذي اقتحم الكباريه وضرب محمود المليجي وأنقذ أختنا ليلى.

لا أعرف الآن بماذا أصيح وبمن أستعين، فأنا أحب السفر في نهاية الأسبوع، غير أنني محبوس الآن في القاهرة بغير قرار من النائب العام أو أي سلطة أخري، ممنوع من السفر إلى مدينتي الساحلية ليس بقرار من سلطة الثورة الشرعية أو المضادة، بل لأنني لم أعد أشعر بالأمان، لا بد أن أتسلح بسلاح شخصي، ليكن مسدسا، بالتأكيد سأحصل على ترخيص بسهولة ثم أشتري مسدسا سريع الطلقات، في اللحظة التي يهاجمني فيها بعض الأوغاد سأستخدمه على الفور، ماذا تعني بكلمة «ستستخدمه» هل ستكتفي بتهديدهم بإطلاق النار في الهواء؟ لن تعيش بعدها لتندم على هذا الخطأ (لاحظ أنني أتكلم مع نفسي) الدرس الأول في استخدام السلاح هو، عندما تشهر المسدس عليك أن تطلق النار على الفور.. طاخ.. طيخ. بدأت أستعيد في ذهني كل مشاهد أفلام الغرب الأميركي، جون وين، وتايرون باور، ليس المهم التصويب الجيد، المهم سرعة إشهار المسدس، لا بأس سأتدرب على ذلك، عندما أقود السيارة سأضعه قريبا مني، لا تفاهم ولا تهديد بل طاخ.. طاخ، أما عندما أكون سائرا على قدمي فسأضعه في جراب أنيق في حزامي، لا بد أيضا هنا من التدريب الطويل على سرعة إشهاره، سأتحول إلى قاتل إذن.. نعم، عندما تحمل سلاحا تتولد عندك رغبة قوية في استخدامه، استولت علي شجاعة لم أعرفها من قبل، سرت في كل الطرق الخلوية، يا فرج الله، أخيرا هذه هي عصابة تغلق الطريق، أشكرك يا رب، حانت ساعة النزال، في جزء من اللحظة تناولت مسدسي ثم طاخ.. طاخ.. طاخ، سقط أربعة وفر شخص، طلقات الرصاص لم تلفت نظر أحد، شخص واحد لم يمت بعد، نقلته إلى أقرب مستشفى، ثم ذهبت لأقرب نقطة شرطة، لم أجد أحدا يقوم بإلقاء القبض علي، اتصلت ببعض الأصدقاء الذين اتصلوا ببعض المسؤولين وأخيرا قبض علي، التحقيقات طويلة ومملة، اعترفت بما حدث، نعم قتلتهم دفاعا عن نفسي، س: ألم تكن هناك طريقة أخرى تدافع بها عن نفسك من غير أن تقتلهم؟.. ج: لأ.. س: ألا تؤمن بجدوى الحوار، لماذا لم تقم حوارا بينك وبينهم، إن الكلمات الطيبة لها فعل السحر، هل جربت أن تحدثهم بعذوبة؟.. ج: لأ.. لم يحدث.. بدأت أقرأ عناوين الصحف.. مثقف يقتل عددا من المسجلين خطر، ثم توالت المشاهد لأرى نفسي مرتديا بدلة السجن البيضاء، أنتقل بسيارة السجن إلى المحكمة، عدد من المتفرجين يهجمون علي ويوسعونني ضربا بينما أنا في حماية الشرطة، أصيح: يا شاويش.. لا يوجد شاويش، يوجد فقط لواءات وعمداء، وضباط من رتب صغيرة، وماذا عن هؤلاء الذين يستمتعون بضربي أمام قاعة المحكمة؟ هل هم أهل البلطجية؟

عرفت بعد ذلك من الصحافة ومن برامج الفضائيات أن من أطلقت عليهم النار لم يكونوا بلطجية، كانوا مجرد مواطنين خائفين مثلي يحملون السكاكين والسيوف ليدافعوا بها عن أنفسهم في مواجهة البلطجية، قالت الصحف إنهم أوقفوني عندما شكوا في أنني بلطجي من التانيين، البلطجي الذي نقلته إلى المستشفى، لم يمت، أنقذه الأطباء، ومن غرفة العناية المركزة قال لبرنامج تلفزيوني: لقد استوقفناه لنسأله عن إنتاجه المسرحي الجديد، نحن في حاجة إلى الكوميديا هذه الأيام.

ما هزني حقا من الأعماق هو الهتافات ضدي (الشعب يريد.. إزالة المثقفين).. أنا أستطيع مواجهة أي شخص وأي فكرة ولكن ماذا أفعل في مواجهة الشعب؟ عندما يريد الشعب إزالة المثقفين فلا بد من تنفيذ قرار الإزالة فورا.