هل حدد المجتمع الدولي «العدد المقبول» لضحايا ليبيا قبل التدخل؟

TT

قتل امرئ في غابة - جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن - مسألة فيها نظر (أديب إسحق)

متى كان تدمير مدينة على رؤوس أهلها جريمة يعاقب عليها القانون؟

يبدو أن هذا السؤال بات من السخف لدرجة أنه ما عاد يستحق الرد.

فأين أهمية أن يقدم ديكتاتور يتمتع بسجل حافل في قتل الأبرياء برا وجوا وبحرا، على امتداد أكثر من 40 سنة، على أن يضيف إلى مآثره مأثرة أخرى؟

وأين الخطورة في احترام «سيادة» بلد ألغى ديكتاتوره فيه - بالتمادي - كل مقومات «السيادة» ومؤسسات السلطة، بما فيها الجيش، كي يسهل عليه تطبيق نظرياته السلطوية الخاصة في تحكيم الغوغاء بأبناء جلدتهم... تارة باسم «الثورة» و«الزحف الأممي» وطورا باسم «العصبية القبلية» التي نهى عنها الإسلام منذ أكثر من 1400 سنة؟

كلمة «تردد» المهذبة جدا سمعها كثيرون مثلي خلال الأيام القليلة الماضية وهي تطلق لوصف المواقف الدولية، لا سيما الغربية، مما يجري في ليبيا. أيضا سمعنا كثيرا كلمات مثل «سيادة»، و«توافق» و«إجماع»، وعبارات تعفف مصطنع ومقزز، حول الخشية من رد فعل سلبي في العالمين العربي والإسلامي من وقف «المجازر» التي كان قد بشر بها علانية رأس اللانظام في طرابلس وولي عهده.

قد يكون بعض الساسة الغربيين، حقا، مترددين. وربما كان درسا العراق وأفغانستان الموجعان قد أثرا على قناعات البعض منه، إن لتشككهم المزمن بنيات واشنطن النفطية بالنظر لسوابقها العديدة حتى في موضوع ليبيا، أو لتخوفهم من تصاعد المد الإسلامي الأصولي الذين يرون أنه أخذ بالفعل يقرع أبواب أوروبا. وفي هذا السياق، من الواجب تسجيل الجدلين المحتدمين راهنا في كل من فرنسا وألمانيا حول موقع الإسلام والمسلمين من الواقعين السياسي والاجتماعي - الثقافي للبلدين.

أيضا، ربما كان من حق الساسة الأوروبيين أن يطالبوا العواصم العربية والإسلامية، وحتى الأفريقية، بتأمين «الغطاء السياسي» لأي تحرك عسكري يستهدف ليبيا، لا سيما أن غزو العراق - مثلا - كان في حقيقة الأمر «مشروعا» أنجلو - أميركيا بدعم إسباني، وقد وقفت باقي دول أوروبا ضده بحجج متعددة، وبالتالي، عطلت مع غيرها كل مسعى لإكسابه أي غطاء من الشرعية الدولية.

هذا كله مفهوم ومقدر. غير أن ما يستعصي على الفهم، بل ويدعو إلى الشك، هو مستوى الاحترام الجدي الذي تحظى به مسألة حقوق الإنسان في العواصم الغربية المتحضرة، التي يثرثر عنها كل ساستها ومعظم إعلامها بكرة وأصيلا. وهنا، لا حاجة لمساءلة هذه العواصم عن حقيقة مواقفها من طرابلس على امتداد العقود الأربعة الأخيرة، على الأقل لتحاشي الإحراج، ولكن ألا يستوقف المحاضرين بالديمقراطية وحقوق الإنسان ما سمعوه من اللانظام الليبي، في إعلامه والمقابلات الصحافية التي أجريت مع رموزه، على امتداد الأسابيع الثلاثة الماضية؟

الموقف الأميركي - كبداية - كان صارما وواضحا في الحالتين التونسية والمصرية. وكانت قضية تصدي القوى الأمنية للتظاهرات الشعبية بقوة السلاح «الخط الأحمر» الذي أسقط تجاوزه في نظر واشنطن والعواصم الغربية الأخرى شرعية كل من النظامين السابقين في تونس ومصر.

غير أن التعامل مع الحالة الليبية، أميركيا وأوروبيا، كان مخجلا وملتبسا إلى حد التآمر على المواطنين الأبرياء الذين انتفضوا على ديكتاتورية الفوضى والقبلية المتحكمة بمقدراتهم لأكثر من أربعة عقود.

أصلا، واشنطن وبرلين وباريس وغيرها من العواصم الغربية، تدرك جيدا أن لا وجود في ليبيا لجيش وطني ذي قيادة تتفهم مسؤولياتها إزاء شعبها، كحال كل من تونس ومصر، حيث حسمت الوضع وقفة الجيش بجانب الشعب، وأقنعت الحاكم بأن عليه التنحي. ففي ليبيا، تمكنت ما كانت قبل 40 سنة «ثورة اشتراكية قومية عربية» من تحطيم مهنية الجيش وهويته الوطنية الجامعة، وحولته إلى «كتائب» قبلية يقودها أبناء عائلة «ملك ملوك أفريقيا» ويعززها مرتزقة مستأجرون من دول أفريقية وعربية وأوروبية لقمع أهل البلاد بالقوة.

ثم إن الولايات المتحدة والدول الأوروبية تعلم علم اليقين أن لا فرق بين ميزانية ليبيا وميزانية أصحاب اللانظام الذي يحكمها. وأن في متناول هؤلاء إمكانيات مادية أكثر من كافية لمواصلتهم استئجار المرتزقة وشراء الضمائر إلى ما لا نهاية. ولئن كان رأس السلطة قد قال من دون أن يرف له جفن إنه لا يحتل أي منصب لكي يستقيل منه، فالمجتمع الدولي يعرف جيدا مع من كانت تُعقَد الصفقات النفطية والاستثمارية، وإلى جيوب من ذهبت وتذهب مليارات الدولارات المدفوعة ثمنا للنفط الليبي.

أخيرا، وليس آخرا، إذا كانت الذريعة لـ«الخيانة» - وهي كذلك حقا - إصرار واشنطن و«ناتو» على تلقي طلبات مسبقة من الليبيين والعرب والمسلمين والأفارقة قبل أي تدخل لمنع المجازر الموعودة، فقد كانت مواقف المجلس الوطني الليبي وجامعة الدول العربية وأمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي وقادة دول مجلس التعاون الخليجي... وحتى ديزموند توتو، كبير أساقفة جنوب أفريقيا الأنجليكاني السابق حامل جائزة نوبل للسلام، ... واضحة وصريحة.

مع هذا، لا تخجل أصوات في أوروبا، بينها وزير خارجية ألمانيا ورئيس المجلس الأوروبي، من تجاهل ما يحصل... واعتبار المأساة الليبية مجرد خلاف عائلي!