حارس الدستور!

TT

إذا كانت ليبيا، بما يجري فيها حاليا، تمثل حالة خاصة، وربما استثنائية، قياسا إلى غيرها من دول المنطقة، فإننا في المقابل مدعوون إلى أن نلتفت إلى «قاسم مشترك أعظم» كان ولا يزال يجمع بين أحداث أربع دول هي: مصر، وتونس، والجزائر، واليمن!

فعندما خرج الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بن علي، ليخاطب التونسيين، قبل تنحيه بأيام، قال إنه لن يرشح نفسه مرة أخرى، في انتخابات 2014!

وحين خاطب الرئيس مبارك المصريين، في عز الأزمة، فإنه قال إنه لن يرشح نفسه في انتخابات الرئاسة التي كان مقررا إجراؤها آخر هذا العام!

وعندما واجه الرئيس اليمني علي عبد الله صالح تصاعدا في أزمة بلاده، أقر مؤخرا، بأنه لن يرشح نفسه، في انتخابات الرئاسة عام 2013!

وقبل يومين، أعلن مسؤول جزائري أن الرئيس «بوتفليقة» لن يرشح نفسه في انتخابات الرئاسة المقرر لها أن تكون في آخر عام 2014!

فما معنى هذا كله؟!.. وما معنى أن يؤكد الرؤساء الأربعة على معني واحد، دون سابق اتفاق بينهم؟!.. ولماذا لم يصرحوا، جميعا، بشيء من هذا من قبل؟!.. ولماذا كانوا جميعا أيضا، يتهربون في الماضي من مجرد التلميح إلى معنى من هذا النوع، فضلا بالطبع عن التأكيد عليه، كما حدث في المرات الأربع؟!

بل إن العكس على طول الخط كان هو الحاصل من قبل، بدليل أن الرئيس صالح - مثلا - كان قد تقدم في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بمشروع قانون إلى البرلمان، يفتح مدة بقاء الرئيس في منصبه على آخرها، ويجعل الرئيس مستقرا في قصر الرئاسة مدى حياته.. وما لبث الرئيس نفسه أن سحب المشروع، وصرح بالعكس، وراح يؤكد في كل مناسبة عامة بعدها على أنه لا يرغب في البقاء رئيسا، بعد انتهاء مدة ولايته الحالية!

والرئيس مبارك كان هو الآخر كلما سألوه على مدى سنوات طويلة مضت، عما إذا كان ينوي تعديل المادة 77 من الدستور، والتي كانت قبل تعديلها عقب 25 يناير (كانون الثاني)، تنص على بقاء الرئيس حياته كلها على الكرسي، فإنه كان في كل مرة يردد شيئين، أولهما أن الشعب هو الذي يختار الرئيس، وأننا - من وجهة نظره وقتها - لسنا في حاجة إلى تعديل لهذه المادة، لأن الشعب إذا لم يشأ إبقاء الرئيس لولاية جديدة، فإن عليه ألا ينتخبه، وألا يصوت له في صناديق الاقتراع. وكان الشيء الثاني، الذي كان «مبارك» يردده، أننا في مصر قد أخذنا مبادئ دستورنا عن الدستور الفرنسي الذي لا يحدد مدة معينة لبقاء الرئيس!

وكان المعنى المراد، في الحالتين، إنما هو حق يراد به باطل.. فصحيح أن الشعب يختار الرئيس في مصر، منذ إقرار مبدأ الانتخابات الرئاسية في عام 2005، لكن الأصح منه أن الناخب ليس حرا كما قد نتصور، في اختيار من يريده من المرشحين، لأن هناك عشرات الأسباب التي تجعل حكاية حرية الناخب في اختيار من يشاء محل نظر، بل محل شك!

وكانت حكاية الدستور الفرنسي هي الأخرى خرافة كبيرة، لأننا جميعا نعلم أن جميع الرؤساء الفرنسيين الذين تعاقبوا على قصر الإليزيه الرئاسي في باريس، منذ تأسيس الجمهورية الخامسة على يد «شارل ديغول» عام 1958، لم يتجاوزوا الفترتين الرئاسيتين، في أي مرة، ولا تحت أي ظرف، لا لأن الدستور يمنع، فالدستور كما نعرف يسمح، لكن لأن الأصول المرعية تمنع، وتجعل أي رئيس فرنسي يفكر طويلا قبل أن يتجاوز الفترتين الرئاسيتين، بيوم واحد، وربما كان الرئيس السابق جاك شيراك قد لمح، عند انتهاء ولايته الثانية، إلى أنه يفكر في ما إذا كان سوف يرشح نفسه، أم لا، وما كادت أيام قليلة تمر حتى كان قد خرج هو نفسه على الناس ليقول إنه قد حزم أمره، وقرر مغادرة القصر، إلى غير رجعة، لأنه أدرك أن الفرنسيين لن يتقبلوا ما كان يفكر فيه!

ويبقى السؤال هنا، على النحو الآتي: ما هو السبب الذي يجعل الرئيس الفرنسي - أي رئيس - لا يفكر في تجاوز فترتين رئاسيتين، رغم أن دستور بلاده يتيح له التجاوز، لو أراد؟!.. وما الذي يجعل رؤساءنا الأربعة، في القاهرة، وتونس، والجزائر، واليمن، يتجاوزون ويحكمون عدة فترات رئاسية، ولا يتراجعون إلا تحت ضغط عنيف، تارة، وتحت زحف ثورة، تارة أخرى؟!

وبمعنى آخر: متى يتراجع الرئيس العربي، أيا كانت عاصمته، عن البقاء في قصره الرئاسي، تطوعا، كما هو الحال في حالة الرئيس الفرنسي؟.. ومتى ينصرف الرئيس العربي، أي رئيس، ويستأذن من تلقاء نفسه، لا إرغاما، ولا إجبارا؟!

علينا، ونحن نحاول الإجابة، أن نسترجع أجواء مايو (أيار) 1980 في القاهرة، حين قرر الرئيس السادات وقتها، بإيحاء من المنافقين من حوله، تعديل المادة 77، بحيث نصت منذ ذلك التاريخ على أن يبقى الرئيس في القصر الرئاسي مدى الحياة، وكانت من قبل تنص على أن أقصى مدة يمكن أن يبقاها هي 12 عاما مقسمة على فترتين، كل فترة ست سنوات!

وقتها مر التعديل دون اعتراض، ليس من نواب البرلمان الذين اقترحوه، ومرروه، فهؤلاء بالطبع لم يكن متوقعا من أي منهم أن يعترض، لأنهم هم أصلا الذين مرروا، وهم الذين زينوا التعديل في عين الحاكم ثم صفقوا.. وبالتالي فالاعتراض الذي كان متوقعا كان يجب أن يأتي من الرأي العام نفسه، الذي هو حارس الدستور المفترض، في أي بلد، وليس نواب البرلمان، أو غيرهم!

طبعا، لم يعترض الرأي العام، في عام 1980، ولا بعده، وصولا في النهاية إلى 25 يناير!.. ولا بد أن عدم اعتراض الرأي العام، من خلال أي قطاع من قطاعاته، على تعديل مادة أساسية في الدستور، من نوعية المادة 77، لا يعود إلى أننا لا نمتلك رأيا عاما من أساسه، بقدر ما يعود إلى أننا نمتلك رأيا عاما تم إخماد جذوة الإحساس العام فيه، إذا صح التعبير، وتم إفراغه من حيويته، وقدرته على الرفض والاعتراض!

والدليل على ذلك أننا في القاهرة كنا في عام 1930 نمتلك رأيا عاما، بين جماهير المصريين، لا يقل عن مثيله في أوروبا ذاتها، وإلا فما معنى أن تخرج مظاهرات عارمة، في ذلك العام، احتجاجا على قيام إسماعيل صدقي باشا بإلغاء دستور 1923، وإعلان دستور 1930؟.. ولم تهدأ المظاهرات ولا استكان الرأي العام ولا عاد المتظاهرون إلى بيوتهم حتى عاد بالفعل دستور 23، مرة أخرى، وغاب دستور 30 المصطنع عن الحياة.

سوف يتصرف الرؤساء العرب، في قصور الرئاسة، بمثل ما يتصرف الرئيس الفرنسي في الإليزيه عندما يكون الرأي العام هو حارس النص الدستوري، وليس نواب البرلمان، الذين لمّا كان عليهم أن يحرسوه من منافقي السادات، لم يفعلوا، وإنما طعنوه.