أبو فساده

TT

بدأت في مصر رحلة الكلام الفارغ.. فبدلا من الحديث عن فساد أهل المليارات وكيف حصلوا عليها، بدأ الإعلام المصري يتحدث عن الأشخاص ذاتهم، عن رؤوس الفساد في العهد السابق، من خلال قضية ترخيص سيارة أو مخالفة مرور، متصورين أن هذه الألاعيب ستنطلي على الشعب المصري، وكأننا أمام حالة شعب أهبل لم يعرف حجم الفساد ووجوهه ورموزه في عهد مبارك. السؤال الملح الآن: هل إن ما يحدث من تقزيم جرائم الفاسدين أو من أفسدوا الحياة السياسية المصرية، محاولة للعب بعقول الناس، أم أنه أمر ممنهج للتقليل من حجم الفساد الخاص بأشخاص معينين ممن يخشاهم الإعلام المصري، خصوصا من سيطروا على مجال الإعلام لفترات طويلة، ممن يمسكون على الصحافيين والإعلاميين زلة أو صورا مخلة أو شيكات أو ما شابه ذلك؟ هل هو الخوف الذي يجعل الصحافة في مصر لا تقترب من موضوع الإعلام إلا في أطرافه البعيدة جدا؟

ما القصة بالضبط؟ لا أستطيع أن أصدق عيني، بعد انهيار نظام شمولي بامتياز، الذي في الغالب ما تتكشف بعده خبايا قتل ومقابر جماعية أو موت في أقبية المخابرات وأمن الدولة، هذا ما خبرناه بعد انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية، وهذا ما عرفناه بعد نهاية نظام هتلر، وما عرفناه من كوبونات النفط للصحافيين بعد انهيار نظام صدام حسين.. أما في مصر فلم نسمع إلا عن قصاصات أمن الدولة التي فُرمت، وعن الوزير الذي اشترى سيارة بفلوس العمل، وعن الوزير الآخر ورجل الأعمال الذي قدم رِشَى صغيرة لبعض الإعلاميين.. شقة هنا أو فيلا هناك، هو إيه الحكاية بالضبط؟ نظام مبارك وقع ولا لسه؟ كنا نعرف عن الطير الذي يسمى صديق الفلاح «أبو الفصاد» الذي يسميه أهلنا في الصعيد أبو فصاده، والآن نسمع عن صديق الديكتاتور، عن فساده الصغير، عن «أبو فساده».

يبدو أن نظام مبارك برموزه ووجوهه الموجودة على الشاشات وفي ترويسات الصحف لم يسقط على الإطلاق، النظام باقٍ كما هو بالوجوه ذاتها والأجساد ذاتها بشحمها ولحمها، فقط تغيرت طريقة تناول الموضوعات، ونسب الكل لنفسه بطولات زائفة لم تكن موجودة، من أجل الاستمرار في موقعه. لقد قالها جمال عبد الناصر يوم حادثة المنشية: «فليبق كل في مكانه».. ويبدو أن هذا ما حدث بعد عزل مبارك، بقي كل واحد في مكانه، لم يخرج من الحكم سوى مبارك وولديه وزوجته، ولو أتيحت لهما الفرصة لركبوا موجة الثورة أيضا. من ينظر إلى المشهد الإعلامي المصري اليوم يظن أن العائلة الوحيدة التي كانت ضد الثورة هي عائلة مبارك، ما عدا ذلك الكل شارك في الثورة، وأن رؤوس الفساد لم يكونوا أبدا كذلك، هم فقط استخدموا سيارات الحكومة في مواعيد غير مواعيد العمل الرسمية.. ألا يستحي من يكتبون هذه القصص الصحافية؟

ماذا عمن كانوا يقومون بتصوير زوار مصر من الإخوة العرب ومن الأجانب؟ وماذا عمن كانوا ينصبون شراك «فتيات السيطرة والسمو الروحاني» لاصطياد السذج من الساسة ممن كانوا يزورون مصر، للترفيه أو في زيارات رسمية؟ هل انتهت هذه الممارسات بنهاية رئيس جهاز مخابرات عبد الناصر السيد صلاح نصر؟ أين ذهب تلاميذه؟ هل اختفوا إلى زوال، أم هذا السلوك كان قائما أيام مبارك وله رجاله، ولكن قليلين من الصحافيين لديهم الجرأة أو القدرة لفضح الممارسات القذرة للنظام السابق؟ في عهد مبارك كان هناك فساد كبير، وقد كتبت في السابق مقالا في هذه الصحيفة، بعنوان «معا من أجل فساد أفضل»، قلت فيه يومها: إن مقاومة الفساد في مصر أمر غير محمود؛ لأن الفساد هو الجزء الأكبر من إدارة الدولة، وإنهاء حالة الفساد معناه انهيار الدولة؛ لذا طالبت يومها بتقنين الفساد، وجعله شيئا أقرب إلى البقشيش، أي بنسبة 20% حتى لا ينهار البيت على من فيه.. أما وأن الثورة قد جاءت وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فمم تخاف صحافة مصر وإعلام مصر في فضح الفاسدين ومحاكمتهم؟ لماذا إعلام مصر خائف هكذا؟

لماذا يركز الإعلام المصري على ذيول الفساد وليس رؤوسه، أم أن الكثيرين منه «ملطوطين»، كما نقول في مصر، أي أن الفساد وصل إليهم؛ لذا يتسترون عليه أو يظنون أن الفاسدين الكبار سيبلغون عنهم إذا تعرضوا للحديث عن فساد كفلائهم السابقين؟ أهيب بالصحافة المصرية أن تعود إلى تاريخها العريق، وتنظف نفسها وتتطهر مما يتهمها البعض به في ميدان التحرير وربما في ربوع الوطن كله. تغطية الصحافة المصرية للفساد ورموزه، حتى الآن، ليست تغطية صحافية تهدف إلى الكشف والفضح، بل أصبحت «تغطية» بمعناها الحرفي، أي تعتيما وتسترا على الفساد ورموزه، وبهذا تصبح الصحافة شريكة في الجريمة.