شرق أوسط جديد: تركيا أنموذجا

TT

في خضم تسونامي التغيير الجماهيري الذي يجتاح الشواطئ العربية جاءت زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي لتركيا، لتكون ذات مغزى، فهو الذي رفض دوما القيام بزيارة تركيا، وهو الذي أعلن أكثر من مرة معارضته لانضمام تركيا (المسلمة) إلى أوروبا (المسيحية) كما يراهما هو، ولكنه زارها هذه المرة فقط كرئيس لمجموعة العشرين، ولم يتجاوز مكوثه في تركيا ست ساعات وحسب. وقد وصلها وهو يمضغ اللبان، واجتمع مع رئيس الوزراء أردوغان وهو يلف ساقا على ساق؟!

الطابع غير العادي لهذا الخبر هو ردود فعل الأتراك المحسوبة والموزونة، والهادفة إلى الرد السريع على الصلف والتعالي الغربي المعهود بما يحفظ كرامة ومكانة تركيا التي أصبحت بنظامها الديمقراطي، والتزامها الإسلامي، وشموخ قادتها مصدر إلهام للشعوب العربية، إن كان لجهة إمكانية قيام حكومة ديمقراطية تمارس التعددية، وتداول السلطة، وسيادة القانون في مجتمع إسلامي، أو لجهة شموخ قادتها بعيدا عن مظاهر الخنوع والتبعية والعطالة.

ظهر في صورة الخبر أردوغان يقف في أعلى الدرج وهو يصافح ساركوزي الذي كان يمد يده مصافحا من تحت، بينما وقف أردوغان، كما عرفناه، شامخا بعزة وطنه وكبرياء شعبه كأبي الهول، وليس كالعديد من الحكام الذين نراهم وهم يصافحون أيدي قتلة ملطخة بدماء أشقائهم في فلسطين والعراق ولبنان، ويطبعون صاغرين القبلات على وجنات وأيدي وزيرات خارجية بلدان تهدد بلدانا عربية، وتفرض الحصار على أشقائهم في غزة وتمول استيطان واحتلال فلسطين. ويضع أردوغان هذه المرة، ولأول مرة، ساقا على ساق، وهو في اجتماع رسمي، في رد واضح على ساركوزي الذي اختار تلك الطريقة للجلوس!

ولكي يؤكد الرسالة، قدم أردوغان هدية تذكارية لساركوزي، كانت عبارة عن رسالة كتبها السلطان العثماني (المسلم) سليمان القانوني عام 1526، مستجيبا لرسالة استغاثة بعث بها له ملك فرنسا آنذاك، فرنسيس الأول (المسيحي)، عندما وقع أسيرا في يد (المسيحيين) الإسبان، يطلب فيها العون من الدولة العثمانية، يطمئنه فيها بأنه سيخلصه من الأسر. وبالفعل، أرسل السلطان إليه قوة عسكرية حررته من الأسر.

ولا شك في أن ساركوزي الذي يكرر رفضه لانضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، كان بحاجة إلى من يذكره بسلوك حضاري يليق بتاريخ تركيا ومكانتها وبقيمها الإسلامية المتفوقة مقارنة بالانغلاق داخل غياهب الإسلاموفوبيا المخزية. ومن منا ينسى موقف أردوغان المماثل دفاعا عن كرامة شعبه عندما قام الجنود الإسرائيليون بإعدام الناشطين الأتراك العزل بدم بارد على سطح سفينة مرمرة وهي في طريقها لكسر الحصار عن أشقائهم في غزة، ومن منا ينسى انتفاضته في دافوس وانسحابه الغاضب من الجلسة، حين رفض رئيس الجلسة ديفيد إغناتيوس إعطاءه الكلام، وأعطى الكلام لشيمعون بيريس بدلا منه.

هذا الخبر، التركي - الفرنسي، وما يتضمن من الإشارات الصغيرة ذات المواقف الكبيرة، يهمنا نحن العرب في هذا المفصل التاريخي بالذات، لأن مؤشراته ومواقفه هي جزء من منظومة قيم مفعمة بالكرامة الوطنية، وبالاعتزاز بتاريخ الأمة ومقدراتها، ما حضر منها وما مضى، لأن هذه المواقف والإشارات هي تعبير أيضا عن نضج المؤسسة السياسية العاملة، وتعبير عن حيوية القائمين عليها بفعل التصاقهم بنبض جماهيرهم وثقتهم بدعم هذه الجماهير المؤكد بالعملية الديمقراطية، هذه الحيوية فاعلة إلى حد أنها تفرز من تاريخها، وتاريخ أوطانها، نقاط القوة حتى وإن مضى عليها قرون، وتضعها في سياق الزمن الحاضر والمستقبل، لتعلي من شأن الأمة والشعب، وتشكل ردا حضاريا متسما بتفوق القيم والأخلاق على المتهاونين.

مقارنة الأداء الرسمي العربي بما يقوم به قادة تركيا، وبمقارنة المكانة التي نحتتها تركيا الديمقراطية لنفسها، مقارنة بالهدر الذي يعانيه العرب، ترى الهدر في المقدرات، الهدر في الطاقات، وفي المؤسسات، وفي الموارد، وفي الإرث الثقافي والحضاري للعرب! فكم يمتلك العرب من أفضال على بلدان، ومجموعات دينية وعرقية، وكم ساهموا في إيقاظ العالم ونقله من الظلمات إلى النور، وكم رفدوا العالم بأبهى وأجمل ما تعرفه البشرية اليوم. فهل ركز حكامنا، والمثقفون، والإعلاميون، أو السياسيون على نقاط القوة هذه؟ وهل استفادوا منها في أي زمان ومكان؟ وهل استحضروا ماضيهم الأغر ليعالجوا نقاط ضعف حاضرهم، ويتطلعوا إلى مستقبل أكثر إشراقا؟

لا شك في أن التقدم في تاريخ الأمم، يشمل مختلف مناحي العمل والمعرفة، وكذلك التخلف أيضا عن ركب الأمم، فإنه هو أيضا يشمل كافة المناحي حين تبتلى به أي أمة أو شعب. وإذا أخذنا مثالا على ذلك عالمنا العربي، نرى أن زمن نهوض العرب قديما، وحديثا في بداية القرن العشرين شهد انتعاش الإعلام الحر، وتعدد الأحزاب، اللذين ارتبطا بالكفاح التحرري من الاستعمار والاستبداد، وترافق ذلك مع انتشار المدارس والجامعات، وتحرر المرأة من مظاهر الجاهلية الأولى، المتسمة بالوأد والظلم والجهل، وانتعاش الثقافة والعلوم والفنون العربية أيما انتعاش.

علمتنا أزمان النهوض تلك أن الدين، والأخلاق، والتنمية، والسياسة تنتعش معا، وتنتكس معا إذا تسرب الجمود والاستبداد إلى أي منها، فالكل جسد واحد، ومكونات النهوض، والجمود متداخلة، ومترابطة.

واليوم نرى أيضا أن التقدم، أو الجمود لا يلتقيان داخل الوطن الواحد. فعندما يعم أحدهما فإنه يشمل المجالات كافة، ولا يمكن أن يلتقيا، إلا ويزيح الجمود في السياسة التقدم في المجالات الأخرى كافة، وإن بعد زمن. فقد رأينا في هذه اللحظة التاريخية الزاحفة أوجه التشابه في معظم الدول العربية، وأهمها الضعف القاتل للمؤسسات الرسمية السياسية، المتمثل في ضعف حضور الأجيال الشابة في هذه المؤسسات، بل وانعدام حتى نوافذ التعبير عن طموحاتها وآرائها، ولم يبق أمامها سوى الشوارع تخرج إليها لإسماع صوتها، وللتظاهر تحقيقا لإرادتها.

لقد أظهرت ثورات الحرية في مصر وتونس، والمنتشرة الآن إلى بلدان عربية أخرى، أن المؤسسات الحكومية السائدة حاليا تعود في بنيتها والقائمين عليها وذهنيات بعضهم إلى القرون الوسطى، وأحدثها إلى منتصف القرن الماضي، وهو الأمر الذي يطرد عن قصد، أو غير قصد، كل الأجيال المتعاقبة، فيحرم أجهزة ومؤسسات الدولة من حيوية نبض الشباب، ومشاركتهم، وحماسهم في البناء والإبداع، وهذا الأمر سبب احتقانا شديدا لدى هذه الأجيال المتعاقبة، وترهلا قاتلا انتشر لحد الشلل في النظم السياسية، والإدارية، والمعرفية السائدة التي من المفترض، والمطلوب في أي مجتمع، أن تكون نشطة في استقطاب إبداعات كل جيل، وطاقات أفضل الكفاءات، والاستفادة من أفضل مخرجات الجامعات لتساهم دائما في بناء وطن أفضل للجميع، وليس لنخبة ضيقة، ولذلك عجزت الأنظمة العربية السائدة عن ترميم نقاط الضعف في المؤسسة الحكومية، وعن مواكبة الإبداع والتقدم في علوم الإدارة والاقتصاد والسياسة. كما كشفت هذه الأحداث ضعف التعليم الأساسي والجامعي في مؤسساتنا التعليمية، وضعف العلاقة، أو انعدامها بين الجامعات وسوق العمل والمجتمع، بحيث يغادر الطالب الجامعة إما إلى سوق البطالة، أو إلى الهجرة. وكشفت أيضا غربة الثقافة والمثقفين عن بعضهم كحركة ونواة، وعن مصالح وآلام وآمال الجماهير، بحيث توقفت الثقافة أيضا عن كونها عنصرا رافدا وممكنا ومعززا للكرامة الوطنية. والضعف نفسه يسري في عروق الإعلام، والقضاء، والقانون... وسرى هذا الضعف ليهدم علاقة الثقة بين الأنظمة والشعوب.

إن قائمة مؤشرات الضعف العربية تطول وتطول. ولكن اختصارها ممكن بالقول إن الضعف الأساسي في بلداننا، هو ضعف أنظمة حكم لم تتطور منذ أن استقلت البلدان العربية من الاحتلال الأجنبي، فقد أديرت هذه البلدان بأنماط سياسية مختلفة، العنصر الجامع بينها هو غياب المؤسسة السياسية التي تجدد نفسها باستمرار من خلال تدفق الدماء الجديدة، والأفكار المتجددة، ونبض الشباب في أوصالها.

ما فعلته تركيا في العقدين الأخيرين، هو وضع أسس وطنية للديمقراطية، بحيث تحصد تركيا كلها، شعبا وحكاما الألق كله، ويلعب الجميع دور الجنود المخلصين لهذا الدور، والبناة لهذه المكانة. وهذا ما يجب أن يتعلمه العرب كي نبعد عن بلداننا التخلف، والجمود، والقمع، والاضطراب.