إعادة هيكلة سوق العمل الخليجية بطريقة ثورية

TT

لا يمكن السماح باستمرار الدينامية الحالية لسوق العمل الخليجية، لأن القوى العاملة المحلية تنمو بوتيرة متسارعة. لكن قبل البدء في إصلاح هذه السوق، لا بد من تكوين رؤية واضحة حول الآتي: في أي اتجاه يريد صناع السياسة دفع الاقتصاديات الخليجية؟ إذ من غير المجدي أن يستمر القطاع الخاص في اعتماده المفرط والكبير على العمالة الوافدة، بينما يضطر القطاع العام للقيام بدور محرك العمل الرئيسي والملاذ الأخير للمواطنين. وخلافا لاقتصادات الشرق الأوسط المستوردة للنفط، توفر الاقتصادات الخليجية سنويا الكثير من فرص العمل الجديدة؛ لكنها تذهب إلى الأجانب، لا المواطنين. ففي المملكة العربية السعودية، وحدها، وفر القطاع الخاص نحو 847 ألف فرصة عمل جديدة في عام 2009، وذهبت جميعا إلى عاملين أجانب. ولا يمكن تحميل رجال الأعمال المحليين مسؤولية هذه المشكلة لأن غاية ورغبة رجال الأعمال في أنحاء العالم كافة هي تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح. بعبارة أخرى، يستغل القطاع الخاص الخليجي الفرص التي تتيحها قوانين العمل المحلية. فهي تسمح له بالاعتماد على العمالة الأجنبية الوفيرة والرخيصة في تنفيذ أعماله ومشروعاته. ولا يستطيع المواطن الخليجي الذي يبحث عن عمل أن ينافس العمالة الأجنبية لأن رواتب الخليجي أعلى من نظيره الأجنبي.

وفي الحقيقة، هناك فرق شاسع بين رواتب الخليجيين والرواتب السائدة والعامة في الهند وباكستان والفلبين، مما يجعل معركة التنافس على فرص العمل محسومة لصالح العمالة القادمة من هذه الدول. وما دامت وفرة العمالة الوافدة استمرت، فإن رواتب المواطنين ستظل أعلى بكثير من رواتب الوافدين. وبعدما رفع الحد الأدنى لرواتب المواطنين في بعض دول الخليجية، تحول القطاع الخاص الخليجي بشكل واضح باتجاه توظيف العمالة الأجنبية القادمة أو المجلوبة من جنوب شرق آسيا. ويعد الحصول على هذه العمالة بسهولة جزءا من مشكلة البطالة في دول مجلس التعاون الخليجي. وفي المرحلة الراهنة، يفضل القطاع الخاص الخليجي توظيف العمالة ذات المهارات المحدودة والمستوى التعليمي المنخفض لأن رواتبها متدنية.

هنا، يتمثل التحدي الرئيسي في تحقيق الانتقال إلى توظيف العمالة الوطنية الماهرة وخريجي الجامعات. وفي ظل البيئة الحالية، تكاد تنعدم المنافسة على رفع الإنتاجية أو استخدام أحدث التقنيات، بينما تحتدم المنافسة على توظيف أرخص العاملين الأجانب. وقد تضاءل النشاط التدريبي، وأصبح استخدام التقنيات الحديثة مسألة ثانوية نتيجة لوفرة العمالة الرخيصة. وفي ظل تدني الأجور ومحدودية مهارات العاملين، ظهرت معضلة أخرى، وهي: عدم استثمار المواطنين المقبلين على دخول سوق العمل في تعليمهم وإحجام جهات العمل عن الاستثمار في تعزيز مهارات هؤلاء المواطنين. فعندما ينخفض الطلب على المهارات، يقل معروضها فينخفض المستوى التعليمي المطلوب - والذي يسعى العاملون المحتملون لتحصيله.

ويركز نظام التعليم الخليجي على توفير المهارات الكافية لتلبية متطلبات القطاع الخاص. مع ذلك، ثمة نقص في المهارات. ويمكن معالجة هذا النقص في المستقبل القريب لأن المزيد من المواطنين يتعلمون في الخارج حاليا، ولأن الطلب المحلي على الكفاءات الوطنية المتعلمة في ازدياد مطرد. إن إعادة هيكلة سوق العمل الخليجية، وتوفير فرص عمل جديدة بأجور مرتفعة للمواطنين ذوي المهارات العالية، وتقليص العمالة الوافدة، كل ذلك سيؤدي إلى إنعاش الاستهلاك المحلي ورفع مضاعفات الاقتصادات الخليجية. وقد يؤدي تحسين الامتيازات التي يوفرها القطاع الخاص إلى رفع الإنتاجية ورفع أخلاقيات العمل للعمالة الخليجية الوطنية.

علاوة على ذلك، فإن جهة العمل لا تستثمر في التدريب، لأنها لا تعتبر تدريب الوافدين استثمارا بعيد المدى. وبما أن المواطنين يميلون إلى الانتقال من شركة خاصة إلى أخرى بحثا عن رواتب أعلى، فقد غاب أيضا الحافز لتدريبهم. لذا، لا بد من اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف تدفق المزيد من العمالة الأجنبية بالتزامن مع تنفيذ سياسة فاعلة، لتسريح الأجانب العاملين حاليا في الدول الخليجية. ولا بد أيضا من تغيير قوانين العمل التي تميل إلى حماية المواطنين وتفضيل الشركات الخاصة على العمالة الوافدة. كما ينبغي تيسير عمليتي تسريح وتوظيف المواطنين من أجل رفع أخلاقهم المهنية وتعزيز التنافس في سوق العمل. في المقابل، سيتذمر القطاع الخاصّ لأنه سيفقد إحدى أفضلياته التنافسية (العمالة الرخيصة)، وسيحذر صناع السياسة من خطر التضخم لأن رواتب المواطنين أعلى بكثير من رواتب الوافدين.

غير أن معدل التضخم لن يرتفع بالضرورة بسبب استبدال عاملين محليين بنسبة من العاملين الأجانب. بعبارة أوضح، إذا تم توظيف مواطن واحد مقابل كل ثمانية عاملين أجانب، فإن هذا لن يرفع معدل التضخم العام. وسوف تنخفض أرباح القطاع الخاص الذي قد يسعى لرفع أسعار منتجاته بهدف الحفاظ على المستويات الحالية لأرباحه. وقد تثير ردود فعل الشركات الخاصة قلق صناع السياسة، لكن توظيف المواطنين هدف أسمى وأهم من الحفاظ على الأرباح الضخمة لهذه الشركات.

إذ لا بد من التفكير، مثلا، في أولئك الطلاب الذين يتخرجون في الجامعات المحلية أو الأجنبية ولا يحصلون على فرص عمل في أوطانهم بسبب جشع الشركات المحلية الخاصة. وما دامت سياسة الهجرة المفتوحة سادت، سيسود الاقتصاد القائم على المهارات المحدودة والإنتاجية المنخفضة. بالتالي، ستظل الرواتب متدنية، وسيغيب الحافز الذي يدفع المواطنين إلى التنافس على فرص العمل. وقد يتعذر تحقيق الدور المنشود للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم في حل مشكلة البطالة إن عرضت رواتب زهيدة على المواطنين. ومن دون إصلاح سوق العمل سيضطر القطاع العام إلى توظيف أعداد متزايدة من المواطنين. لذا، ينبغي توحيد الجهود لتسريح العمالة الوافدة بصورة تدريجية لكي يتمكن القطاع الخاص من التكيف مع هذا التحول، ولكي ينتقل الاقتصاد إلى بيئة الرواتب والمحفزات المرتفعة بصورة سلسلة. أخيرا، ينبغي على اقتصادات مجلس التعاون الخليجي أن تركز على ضمان تحقيق مصالح شعوبها.

* مدير عام وكبير الخبراء الاقتصاديين في البنك

السعودي الفرنسي