التعايش المر بين الانتفاضة والسلطة

TT

ليس في الإمكان أبدع مما كان. الصورة العربية مبللة بالدموع والدماء. لكن الموقف في غاية الطرافة، بحيث قد تستلقي على قفاك من شدة الضحك. أو الإضحاك: هناك اليوم تعايش إجباري مدهش بين انتفاضة «مستمرة» وسلطة «مستقرة»!

أخيرا، عثر النظام العربي على «تقنية» مذهلة، في مواجهة الانتفاضة. ليس هناك غالب. أو مغلوب. لا الانتفاضة تحولت إلى ثورة أمسكت بالسلطة. ولا النظام تخلى عنها. فقد النظام رأسا له، أو رأسين هنا وهناك. لكنه ظل «بخير». قدم تنازلات، بيد أنه لم يسقط. ربما تخلى عن غطرسة أوتوقراطيته. بيد أنه ما زال يدير. ويحكم. بل ويفرض.

ما الذي جرى؟ ببساطة متناهية، فقد كف النظام عن استخدام القوة المسلحة. أغلب ظني أن النصيحة أميركية / أوروبية. في عواصم ومدن أوروبا، تجري تظاهرات حاشدة. غاضبة. لكن قوى الأمن تعرف كيف تواكبها. أو تفرقها، من دون استخدام القوة المفرطة. حتى في آخر ثورة شبابية عرفتها أوروبا (1968)، لم يسقط قتلى أو جرحى.

النظام العربي، اليوم، يتفرج على الانتفاضة. يشاهد. يواكب المسيرات والاعتصامات الزاحفة، أو المعتصمة في ميادين التحرير. قواته تحمل السلاح للردع. وليس للاستعمال. حماقة النظام الليبي هي الاستثناء الوحيد. في مواجهة الانتفاضة، لم ينتظر القائد الذي لا يعرف الصبر. لم يتفرج في الخيمة على المشهد المسلي. تحرك. استخدم القوة المفرطة. الدبابات والطائرات. والبحرية. والمرتزقة. فوقع بين خيارين: النصر. أو الموت. حيث لا مهرب. ولا ملجأ آمن، إلا حيث مَنْ يغامر بسمعته الدولية، لاستقباله.

ما هو سلاح الانتفاضة؟ إنه القدرة المبتكرة على الحشد السلمي. الانتفاضة الإلكترونية صدمت نظاما عجوزا لا يجيد قراءة الكومبيوتر. الانتفاضة نقلت الحشد «الافتراضي» من شاشة الإنترنت، لتجعله حشدا جماهيريا هائلا في الميادين والساحات العامة، بحيث يعجز أي نظام شبه عاقل، عن ضرب هذه الحشود، مهما امتلك من قوة. وشرطة. وأمن. وجيوش.

مع «سلمية» نظام منتظر. صابر، تكتشف الانتفاضات العربية محدودية قدرتها على إسقاط الأنظمة. هزت الانتفاضة الضمائر. بحثت عن الكرامة. تحدت بكبريائها النظام الأوتوقراطي المتكبر. أخرجته من وقاره المصطنع. من لا مبالاته. من ترهله، لتضعه أمام شقاء الحياة اليومية العربية: الجوع. الحرمان. الفقر. البطالة. التفاوت الهائل في الدخل...

هل هذا التعايش اللذيذ / المر قادر على الاستمرار، بين انتفاضة لا تملك القوة، ونظام لا يستطيع استعمالها؟ في فراغ هذه الفوضى، لا أملك رؤية لمستقبل بعيد. إنما أتحدث عن الحاضر. ففي استحالة استخدام القوة، لا بديل عن اللجوء إلى السياسة التي ألغاها النظام، منذ عقود بعيدة. السياسة بمعنى فن المساومة والتسوية.

«براغماتية» النظام المصري استغنت عن رئيس، بعد مناوشات مسلحة أخطأ في افتعالها. تجري ملاحقة قضائية ودعائية لشلة رجال الأمن والأعمال والبيروقراط في دائرته الضيقة. لكن سلطته المدنية انتقلت، ليس إلى الانتفاضة. وإنما إلى مؤسسة النظام العسكرية.

لا أجد نفسي معترضا على هذا الانتقال السلمي للسلطة، طالما أنه انتقال مؤقت، كما يقال. في بلد حضاري عريق، كمصر، لا بد من سلطة. المؤسسة العسكرية هي السلطة الوحيدة الباقية، في نظام أُفرغت كل مؤسساته من جديتها. ومصداقيتها.

مع «براغماتية» سلطة عسكرية، تبدو إلى الآن عاقلة وحكيمة، تمت الاستجابة إلى كثير من مطالب الانتفاضة: حل غرفتي البرلمان. قصقصة أجنحة الحزب الحاكم. «شرشحة» رموزها وكبار متنفذيها في الإعلام. تشكيل ثالث حكومة انتقالية، برئاسة وزير أسبق رضي عنه شباب الانتفاضة. حرية ملحوظة للصحافة. منح السلطة القضائية حرية ملاحقة «الفاسدين» المدنيين والأمنيين فقط، من دون أي اتهام يمس العسكريين.

في فن التسوية والمساومة، ظلت التنازلات محدودة. بقيت الانتفاضة في دائرة الطلب المتوسل. لم يتم تشكيل مجلس رئاسي مدني / عسكري. ما زال المجلس العسكري الأعلى هو الحاكم والحَكم. انتقل إعلام النظام إلى قبضة السلطة العسكرية. بقي صحافيو وإعلاميو الرئيس السابق ونجله على الورق والشاشة، في دعاية منحازة إلى السلطة الجديدة.

حتى «حكومة الانتفاضة» أدت يمين الولاء أمام المجلس العسكري. ورفضت أداءه في ميدان الانتفاضة. رئيسها عصام شرف يوبخ الجميع: «لا يمكن الاستغناء عن هيبة الدولة». وزير داخليته يحاول رد الاعتبار لجهاز المباحث وغيره من أجهزة الشرطة، لفرض أمن لم تتمكن السلطة العسكرية من إرسائه. يحيى الجمل انتقل من الحكومة السابقة، إلى الحكومة الجديدة نائبا لرئيسها، مكلفا بالحوار مع الانتفاضة. والأحزاب. والساسة، بالنيابة عن العسكر.

لعل السلطة العسكرية مصرة على طرح التعديلات الدستورية على استفتاء شعبي (19 مارس/ آذار الحالي)، على الرغم من سوء سمعة الاستفتاء، منذ عصري السادات ومبارك. وعلى الرغم من أن التعديلات صيغت ببراعة لجنة صياغة، تضم رئيسا وأعضاء ذوي اتجاهات محافظة و«دينية»، وجاءت لتحرم الأقباط والمرأة من الترشيح للرئاسة، بحيث إن المرشح «الاشتراكي» محمد البرادعي دعا إلى مقاطعة الاستفتاء.

من حسن حظ الانتفاضة «العلمانية» والإسلام «الإخواني» والجهادي التائب، أن المؤسسة العسكرية لم تقدم مرشحا رئاسيا، على شكل ناصر. أو السادات. لا تطبيل. ولا تزمير. ولا صور. لرئيس الأركان ورجل الجيش القوي الفريق سامي عنان.

لعل إعلام أميركا يسيء إلى الفريق عنان، عندما يعبر عن اعتزاز إدارة أوباما وجنرالات البنتاغون بصداقته. صحافة أميركا السياسية تصف الفريق عنان بأنه ذكي. يقظ. حذر. عاقل. محافظ. لكن بلا طموح سياسي، حتى ولو حل محل رئيسه المشير حسين طنطاوي (75 سنة) الذي أبقى الحكومة الجديدة، بلا وزير للدفاع، بعدما حل محل مبارك في رئاسة المجلس العسكري، كقائد أعلى للقوات المسلحة.

ما جرى في مصر، من صبر على الانتفاضة، وتعايش حضاري وإنساني معها، يجري مثله ومثاله في العالم العربي. الانتفاضة لم تصل إلى المطالبة بإسقاط النظام الملكي. إنما طالبت بإصلاحات دستورية في المغرب. الأردن. ومشيخات الخليج. بل أخفق مشروع الانتفاضة في السعودية. لأن الوعي الشعبي هناك شكك في غرض ونزاهة دعاة الإنترنت، المشبوهين في تعصبهم وتزمتهم، أو لانطلاقهم تحت أسماء مستعارة للتحريض الإيراني.

إذا كان النظام الجمهوري عرف أخيرا كيف يتعايش بالسياسة مع الانتفاضة، فلا يعني ذلك أنه لا يعاني من أزمة. حتى الرئيس بشار اعترف بأنه لا بد من انفتاح بعد عشر سنوات. أوفد بشار وزير داخليته لفض شجار بين شرطي ومدني، متجنبا احتمال انتحار «بوعزيزي» سوري. بوتفليقة أحسن حظا من الرئيس اليمني، في مراوحة التلويح بالجزرة والعصا. مهارة الرئيس اليمني في فن المساومة والتسوية لم تعد، بعد 32 سنة، قادرة على إقناع اليمنيين بأن رئيسهم علي. وعبد الله. وصالح.