مصر: صراع شرعيتين

TT

هل هناك فرق بين النظام الحاكم لمصر بعد الثورة ونظام الرئيس المعزول حسني مبارك في رؤيتهما لميدان التحرير، وترقيع الدستور؟ الإجابة الصريحة والواضحة والتي لا مواربة فيها هي: لا، لا يوجد فرق. فـ«أحمد زي الحاج أحمد» رغم الثورة. نحن أمام الرؤية نفسها وانعدام الخيال السياسي نفسه، مما يؤكد أن النظام لم يتغير. تغيرت بعض الوجوه وبقي النظام المسيطر على العقول بالتفكير والسوفت وير القديم. فكلا النظامين يرى المشكلة في ميدان التحرير وإخلائه والاستجابة لمطالب «المحتجين»، وكأن مشكلة مصر كانت ولا تزال مشكلة اختناق مروري بسبب وجود الناس في الميدان، يرون الزحام ولا يرون الثورة.

قبل عزل الرئيس مبارك كان رئيس المخابرات المصرية اللواء عمر سليمان يسمي ما حدث في مصر «حركة شباب»، ولم ينطق بكلمة الثورة مرة واحدة. هذا التعبير المفخخ لعمر سليمان والذي ساد المشهد التنفيذي وربما حتى اليوم يريد أن يقول إن ما حدث هو مجرد حركة لا ثورة، وإنها تخص الشباب فقط ولا تخص المجتمع كله، كان سليمان وإلى آخر عهده يحاول تقزيم الثورة إلى حركة، شيء أشبه بالاحتجاجات الطلابية في 18 و19 يناير 1977، لذا لم ير سليمان ولا مبارك ضرورة لتقديم تنازلات حقيقية، فالأنظمة لا تقدم تنازلات لحركات شباب. ظل الرجلان على هذه الرؤية حتى فقدا شرعيتهما وكرسييهما. المجلس العسكري الحاكم في مصر الآن يتحدث عن الثورة، ولكن على ما يبدو هو لا يقبل بشرعيتها، وهذا ليس تشكيكا، الثورة بالنسبة للجيش هي ثورة 23 يوليو 1952، لا ثورة غيرها. فالجيش حتى الآن لا يعترف بأن وجوده في الحكم هو بسبب شرعية 25 يناير 2011.

ومن هنا تكون أزمة مصر هي الصراع ما بين شرعيتين: الشرعية الأولى هي شرعية يوليو 1952 وهي الثورة الحقيقية من وجهة نظر الجيش، والشرعية الثانية لثورة 25 يناير 2011 وهي الثورة الحقيقية التي يعترف بها الشعب، شبابه وشيوخه ورجاله ونساؤه. شرعية يوليو هي التي تمنح الجيش سلطاته، وشرعية 25 يناير هي التي تجعل الأمة مصدر السلطات. حتى الآن ومن خلال التعديلات الدستورية المقترحة للاستفتاء لا يوجد مؤشر واحد يقول إن الجيش قد اقتنع بأن شرعية 25 يناير هي الأساس وإن شرعية يوليو قد انتهت. حتى الشعب نفسه حتى هذه اللحظة رغم ثورته التي يعترف بها كل العالم على أنها كانت ثورة حضارية، حتى هذا الشعب لم يقرر أن ثورة 25 يناير هي نهاية لشرعية يوليو. ومن هنا يأتي الالتباس الذي يخيم على مصر حتى ما بعد الثورة.

إخلاء الميدان هو الرمزية الأساسية في المشهد المصري التي تؤكد على الصراع ما بين شرعية يوليو وشرعية يناير. لذا قلت بأنه لا فرق بين نظام مبارك والمجلس العسكري الحاكم من حيث رؤيتهما لشرعية النظام في مصر. وإن كان هذا هو المنطلق الفلسفي للحكم فإن إمكانية التغيير تبدو محدودة، ومحاولات ترقيع الدستور هي تأكيد إضافي على أن المجلس هو امتداد للنظام السابق.

إخلاء الميدان وترقيع الدستور مؤشران على أن شرعية يوليو لا شرعية يناير هي التي تشكل المفاهيم الحاكمة للمرحلة وهي التي تلهم السلوك السياسي للمجلس العسكري الحاكم في مصر. ماذا يعني إخلاء الميدان؟ وماذا يعني ترقيع الدستور؟ إخلاء الميدان يعني العودة إلى يوم 28 يناير 2011، يوم جمعة الغضب ومطالبها، تعديلات طفيفة في النظام مقابل فض الاحتجاج، هذه هي النتيجة التي وصلنا إليها حتى اليوم في مصر رغم عزل الرئيس. يريد المجلس العسكري أن يمنح مصر رئيسا ديكتاتورا مرة أخرى ولكن بمدة محددة، نعرف من التجارب أنه لن يترك السلطة إلا على طريقة أسلافه، إما بالموت أو بالقتل أو بالـ«فيس بوك»، على حد تصنيف النكتة المصرية لنهاية آخر ثلاثة رؤساء لمصر.

الجيش على ما يبدو يريد أن يمنح مصر نصف حل، وأنه لا يقدر المسؤولية الملقاة على عاتقة المتمثلة في نقل مصر من حالة مجتمع ديكتاتوري متخلف إلى حالة دولة حديثة. المجلس لا يعترف بشرعية ثورة 25 يناير إلا بشكل تكتيكي، لذا يتفاوض مع الشباب على أنهم من حرك الاحتجاج بهدف تلبية مطالبهم. مشكلة الجيوش في العالم، والجيش المصري ليس استثناء في هذا، هي أن الجيش يستطيع أن ينفذ مهمة أوكلت إليه، لكن الجيش لا يصنع رؤية.

إذا كنا نقول بأن هناك ثورة قد حدثت في مصر، فلا بد لنتائج هذه الثورة أن تثري تراث الحريات الإنساني من خلال رؤية جديدة ودستور جديد. هذا ما فعلته الثورات المهمة في تاريخ البشرية؛ غيرت مفاهيم كبرى وطرحت قيما ومبادئ جديدة جعلت من الكون عالما أفضل للحياة. أمامنا الفرصة الآن، أن نقدم دستورا في مصر يسهم في تراث الحريات وينقل مصر ومن بعدها العالم إلى شيء أسمى مما توصلت إليه الثورة الفرنسية، وهذا لن يحدث بالتأكيد بترقيع الدستور.. إذا كان إخلاء الميدان وترقيع الدستور هما الإسهامان اللذان تمخضت عنهما الثورة المصرية، فبئست الثورة هي.