الملحمة الليبية: استقلال البلاد الثاني

TT

فجأة وجد الإعلام ليبيا، وتحولت الميديا إلى كولومبس جديد فرح بالذهب المتمثل في الأخبار وطزاجتها، هذا الإعلام الذي كان كما الأعمى الفاقد البصر والبصيرة تجاه ما يحدث في ليبيا، وكما فوجئ هذا الإعلام فوجئ العالم الذي لم ينمل وجدانه ما يفعله القذافي بالبشر في ليبيا، الذي كمثال فقط؛ ذبح في ساعات 1278 من السجناء في سجن بوسليم عام 1996.

وهكذا كما انهالت على البلاد أضواء الإعلام انهالت قرارات دولية يعجز المرء العاقل عن متابعتها. وكان تجاهل الميديا لما يحدث في ليبيا، وتواطؤ الغرب الحريص على استقرار الشرق الأوسط الذي يقع جنوب أوروبا ومصدر طاقته، مكّنا القذافي من إخراج ليبيا من الجغرافيا والتاريخ، هذا إلى جانب ضعف بنيوي في تركيب المؤسسات الليبية.

وساهمت في تفاقم هذه الوضعية ثروة القذافي الهائلة التي حُرم منها الليبيون، وحتى العمالة العربية والآسيوية، الأمر الذي جعل البلاد تتدحرج إلى فجوة من ثقوب سوداء لا كنه لها، هي سديم من عنف مطرد من قبل القذافي.

عمل على تفتيت النخب وتقسيم الكيان الاجتماعي وهدم الروح الإنسانية بأن جعل التفكير تهمة. وفعل المستحيل من أجل أن تفر العقول إلى شتات يطارد فيه كل ليبي، ويقتل الفرد فيه تحت سمع وبصر الجميع من دون أن يحرك أحد ساكنا. ولعل أحدا عنده ذاكرة غير مثقوبة فيتذكر كم اغتيل من الليبيين في عواصم العالم الحر؛ ممن لجأوا إليه مستغيثا وما من نجدة، واحد ممن تم اغتيالهم في لندن مدينة الحرية كان مذيعا بأشهر إذاعات الكون: إذاعة لندن.

هذا العالم الآن يمارس هوايته المعتادة في التسلية بمتابعة الجرائم ضد البشرية، رغم أن الليبيين هذه المرة لم يكتفوا بتقديم الضحايا كقربان على مذبح الحرية في بلادهم بل تقدموا لتقديم درس في أن تحرير البلاد من القوات الأجنبية (الإيطاليين الذين قام الليبيون بحرب مسلحة ضدهم ما بين عامي 1911 – 1939 وأيقونة نضالهم عمر المختار شيخ الشهداء) لا يكتمل إلا بتحرير البلاد من القوات المحلية التي تمثل ذلك الاحتلال الأجنبي. ولذا نجد شباب انتفاضة 17 فبراير (شباط) الليبية يستخدمون مصطلح: تحرير، كلما تسنى لهم افتكاك موقع من فلول الكتائب الأمنية للقذافي المستعينة بقوات أجنبية عرفت بالمرتزقة. وقد تمكنوا في أربعة أيام من تحرير أكثر من نصف البلاد.

لقد تمكن الليبيون من إسقاط النظام في أربعة أيام وبذلك حققوا ما لم تستطع تحقيقه ثورتا تونس ومصر! لقد أسقطوا النظام وإن بقي رأس النظام حتى الساعة، ويخوضون حرب تحرير بصدورهم في مواجهة جحافل من قوات أجنبية القلب والقالب: بمعنى أن الكثير من الليبيين المنضوين تحت هذه القوات ولاؤهم الحقيقي لمصالحهم الشخصية ولمن يملك زمام هذه المصالح بين يديه وهو رأس النظام المنهار، وبمعنى أن الكثير من أفراد هذه القوات من المرتزقة، وبمعنى آخر أن بلادا كروسيا وهي مصدر هذه الأسلحة، تقف في المحافل الدولية مدافعة عن عقود هذه الأسلحة مع القذافي. أما الدعم السياسي لرأس النظام فيتمثل في هذا الخرس الذي أصاب دول الجوار والإقليم ومن يتستر تحت مطالب - تدعو للموت ضحكا - بكف العنف بين الطرفين.

أما كيف تم إسقاط النظام وكيف أن الرأس باق حتى الساعة؟ فبإمكان أي مراقب أو متابع غير حصيف إدراك ذلك. ولنتصور أن هناك من لديه فضول لمتابعة هذا الاندلاق الإعلامي فسيلاحظ دون جهد يذكر أن ما تبقى من نظام القذافي هو القذافي وابنه فقط، وأن ليس ثمة رجل غيرهما، مسؤول غيرهما، ليس ثمة رئيس وزراء، وزير لأي شيء، عسكري، إعلامي، رجل يفكر؛ وما أكثر المفكرين في دولة القذافي الذين كانوا ينظّرون لنظريته العالمية لخلاص البشرية.

أضف إلى ذلك أن هذه بلاد مترامية الأطراف، وتقع على بعد 12 ساعة من إبحار فرد في قارب بمجدافين من جزيرة لامبدوزا الإيطالية؛ وهذا ما دعا وزيرا إيطاليا لأن يصرح بأن تفاقم الوضع في ليبيا يمكن أن يجعل ما يقارب النصف مليون من الليبيين يتدفقون على الشواطئ الإيطالية؛ هذه البلاد سيطر شباب انتفاضة 17 فبراير (شباط) على أكثر مدنها على الأرض وأقاموا في أقل من أسبوعين إدارات محلية تدير شؤونها، وقد طالع جمهور شاشات الدنيا أغلب شوارع هذه المدن ولاحظ أن التسيير الذاتي قد نجح إلى حد بعيد.

لقد تمكن الليبيون من استعادة البلاد من سيطرة القذافي، بل وحوصر هو ذاته رغم ما يمتلكه من قوات عسكرية لم يتمكن من تحريكها بسب تمرد أفرادها وانضمامهم للانتفاضة.

وتم تأسيس مجلس وطني مؤقت حصل بشكل عاجل على التأييد من كل المدن المحررة، ومن التنظيمات السياسية الليبية المعارضة وشخصيات بارزة ومن سفارات ليبية في الخارج.

لعله من هذا قد أدرك كل مراقب أو متابع حصيف الأدلة على سقوط النظام في ليبيا وبقاء الرأس متحصنا في قلعته، يبعث بين الحين والآخر قواته كي تنكل بمدينة الزاوية التي تبعد عن مقر قيادته 40 كم فقط.

وفي البلاد المترامية الأطراف الآن إدارة عليا تدير ما تم تحريره من أراض ليبية، لكن هذه الإدارة المستحدثة تعاني كل ما تعانيه البلاد؛ القذافي عمل طوال العقود الأربعة الماضية على إلغاء الدولة، تحت شعارات أشهرها الإدارة الشعبية المفرغة من مضمونها، وإلغاء القوانين. رمى بدستور البلاد معللا ذلك بأن بريطانيا العظمى لا دستور لها، وحطم البنية الإدارية للدولة الليبية الناشئة، وتم إلغاء مؤسسة القوات المسلحة تحت شعار الشعب المسلح، ولذا فقد استلم المجلس الوطني بلادا تم هدم الدولة فيها.

لكن هذا المجلس طلع من ثنايا انتفاضة شباب 17 فبراير الذين رفعوا أيقونة وحدة البلاد: علم الاستقلال، ما رفع ورسم وعلق في كل أركان المدن المحررة وعلى السيارات، وبعض البعثات الليبية كما في الأمم المتحدة وصدور الأطفال والنساء، وحتى في التظاهرات العربية والدولية وبعض من محطات التلفزيون في العالم. وهذا إجماع ذو دلالة مميزة ومهمة، فقد انبثق العلم من اللجنة الليبية التأسيسية لاستقلال ليبيا تحت إشراف الأمم المتحدة ومندوبها الهولندي أدريان بلت، وكانت ليبيا أول دولة تحصل على استقلالها بقرار من الجمعية العمومية للأمم المتحدة صدر في 21 نوفمبر (تشرين ثاني) 1951.

أما المقر الرئيس المؤقت لهذا المجلس المؤقت فقد تقرر أن يكون بنغازي التي انطلقت منها انتفاضة شباب 17 فبراير، وقد دعي إلى هذه الانتفاضة عبر «الفيس بوك» لأنه في مثل هذا اليوم قامت انتفاضة في المدينة عام 2006 وسقط 19 شهيدا؛ وحينها قمنا بأول استخدام للإنترنت في توثيق ونشر صور ومعلومات وفيديوهات هذه الانتفاضة.

بنغازي يدعوها أهلها والكتاب والشعراء الليبيون بـ(روح ليبيا)؛ لأن تأسيسها الحديث تم منذ 200 عام على أيدي سكان جاؤوها من مدينة مصراتة ثم من بقية سكان ليبيا – وحتى إنها مدينة كوزموبولتي ففيها الكثير من سكان البحر المتوسط مثل اليونانيين والمالطيين ومن أفريقيا أي جنوب الصحراء الليبية. وكانت عاصمة ليبيا الأولى. ومن قصر المنار – مقر السفاح الفاشي غراسياني جنرال الجيش الإيطالي وحاكم برقة السابق – أعلن قرار استقلال ليبيا وتكوين دولتها، وكمدينة روح للبلاد غلبت مناهضتها للسلطة السياسية المسيطرة منذ الإيطاليين وحتى الانتداب الإنجليزي العسكري.

وفي فترة النظام الملكي (1951 – 1969) قامت فيها مظاهر عدة من المعارضة وسقط شهداء في صدامات مع بوليس الدولة، وخلال العقود الأربعة الأخيرة علق القذافي مشانقه الأولى للمنتفضين من أبناء المدينة.

لقد حرر الليبيون بلادهم من النظام الغاصب وبقي رأس النظام يأسر عاصمتهم، وقد دفعوا ثمنا باهظا وغاليا من دم أبنائهم، وفي هذه الساعة يعانون من نقص الدواء والأطباء لكنهم ينجزون المهمة التي اضطلعوا بإنجازها: الاستقلال الثاني لليبيا.

* كاتب ليبي.. مشارك في انتفاضة الثورة الليبية