في السعودية.. عادوا بخفي حنين!

TT

بعد الإخفاق الذريع ليوم «حنين» في السعودية؛ حيث لم تخرج ولا خمس مظاهرة في السعودية، أسقط في يد القوم، من حرض على حنين، ومن كان يتمنى في نفسه أن تحصل مسيرة تؤكد أوهامه حول وجود حالة غضب «سياسي» لدى السعوديين.

الرفاق حائرون، يتساءلون: من يكون السبب؟ وأين الخطأ؟ ولماذا لم يصبح الجمهور السعودي مثل غيره؟

الحق أن السؤال يجب أن يُوجه لهؤلاء الرفاق قبل الشعب؛ فالناس في السعودية ليسوا جبناء أو خانعين، كما يقولَ ذاك الذي في لندن، أو أن الجمهور خدع من قبل السلطات السعودية بأن إيران والشيعة خلف الحكاية، كما قال آخر من لندن، الحكاية ببساطة أنهم لم يفهموا الشعب السعودي الذي تبرعوا بالحديث نيابة عنه.

كان قلة من الكتاب يقول خلال الأيام الماضية: إنه لا يجوز إجراء حالة «تناسخ» بين الحالات العربية، وإن لكل مجتمع مشكلاته الخاصة، ولكل دولة تحدياتها التي تخصها، لكن كان ينظر إلى مثل هذا الكلام بوصفه فقط للتهوين وإجهاض الثورات العربية.

الآن تبين لكل ذي عينين أن هذا الرد غير صحيح، وهو كان كذلك من قبل؛ إذ إن من بديهيات الأمور أنه لا يوجد شيء يشبه شيئا آخر تماما، كما سبقت الإشارة إلى هذا المعنى بتوسع في مناسبة سابقة لكاتب هذه السطور.

لماذا هرع بعض السعوديين من النخب الثقافية وبعض شباب الـ«فيس بوك» والـ«تويتر» إلى تصديق أن ثمة جمعة غضب ستجري في السعودية على غرار القاهرة وصنعاء، ورمي كل من يشكك في واقعية هذا التصور بالويل والثبور وعظائم الأمور، ووضعهم في قوائم عار سوداء؟ هذا سؤال مهم حتى لا يتبخر مع الوقت في إيقاع الأحداث.

أرجح أن السبب في ذلك، وهذا قد يكون عذرا نفسيا لمن تعجل القراءة والنصيحة الخاطئة المبنية على خلط التصور، أن كثيرا من الناس فقد اتزانه ورؤيته بعد ما جرى من زلزال رهيب في تونس ومصر، وظن أنه قد وقعت الواقعة وحقت الحاقة وأن لا مناص ولا مهرب من وصول موجة التسونامي هذه إلى كل مكان، بما فيه السعودية، وقد كتب بعض الكتاب العرب، بل أغلبهم، أنه لا توجد دولة عربية، بلا استثناء، بعيدة عن آثار الأمواج التونسية والمصرية، خصوصا بعدما ضخت الفضائيات العربية الكثير من هذا الوهم الثوري التسونامي، وكأنه لا فرق بين مجتمع ومجتمع ودولة ودولة وظرف وظرف، وظن البعض أنه بسبب وجود شكاوى أو انتقادات في كل بلد عربي، بما في ذلك السعودية، إذن فلا مناص أن تصل الأمواج إلى السعودية، ولو بشكل أخف على صيغة مطالب إصلاحية «ثورية» مثل تحقيق ملكية دستورية «فورية» وحرق الزمن والمسافات بسرعة وإيقاع التسونامي التونسي والمصري، الذي هو محل مديح وتقديس مطلق لدى القوم، لكن بدا انكسار الموجة التماثلية في ليبيا؛ حيث تحول الأمر هناك إلى حرب أهلية، وتبين للقوم، إن كان ذلك قد تبين فعلا، أن الأمر أعقد بكثير من «كتالوج» يطبق بحرفية في كل بلد عربي.

في السعودية بدا الأمر أسهل بكثير، وصادما أكثر للمسبحين في محراب عربة «البوعزيزي» في تونس أو ميدان التحرير في القاهرة، فقد جهد الجميع في إيجاد ولو مائة هاتف أو متظاهر في العاصمة الرياض ذات الكثافة المليونية السكانية، ومثلها مدينة جدة.. لقد قرر الجميع، نعم الجميع، أن يمارسوا حياتهم بشكل طبيعي، وكأنه لا توجد قناة «الجزيرة» أو قناة «العالم» أو قناة من هو في لندن أو بيانات المطالب الحافلة بلغة المطالب «الفورية» يوم جمعة كغيره من الأيام، ولم تحتج قوات الشرطة إلى أكثر من وقود البنزين في سياراتها التي زاد عددها في هذا اليوم من دون حاجة إليها في نظر غالبية الناس؛ حيث تكفل الناس أنفسهم بلجم بضعة شبان، نحو خمسة أو ستة، في أحد جوامع الرياض!

لماذا أخطأ من ظن أن السعودية مجهزة لسيناريو مظاهرات؟ ربما كان الجواب أنه من أجل أن تقدم نفسك معبرا عن حاجات الناس وأحلامهم ومطالبهم فيجب عليك بداية أن تفهم هؤلاء الناس فعلا وتعي طبيعتهم وتفهم شخصيتهم وماهية علاقتهم بدولتهم التي تحكمهم، وكيف تم بناء التوافق الاجتماعي والوطني بينهم، وما هي بالفعل مطالبهم.. وهنا ظهرت غيبوبة موقعي البيانات الغزيرة من شتى التيارات «النخبوية» السياسية التي صدرت خلال بضعة أيام فقط، فضلا عن من هم في لندن الذين يبشرون بالانقلاب الفوري منذ عدة سنين!

الناس في السعودية ليسوا حملانا وديعة ولا جبناء، كما يقول البعض، بل عقلاء ويتسمون بواقعية عميقة، ويعرفون مصالحهم في الاستقرار والوحدة الوطنية تحت راية الدولة، هل يعني هذا أنهم راضون عن كل شيء؟ لا طبعا، لكن مطالبهم ليست هي مطالب من يتبرع بالحديث نيابة عنهم، ولا توجد لدينا استطلاعات دقيقة تبين، بشكل علمي، سلم الأولويات والمطالب للناس، ولكن يتبين من خلال الأحاديث العامة، والمزاج الذي يشعر به المراقب، ثم من خلال طبيعة اللا مبالاة التي أبداها السعوديون لدعوات التحريض والتظاهر ليوم حنين، ومن خلال القياس على استطلاع رأي موثق جرى في دولة جارة و«برلمانية» هي الكويت أجراه قطاع المعلومات بإدارة البحوث والدراسات بمجلس الأمة بعنوان «أولويات المواطن الكويتي» في مايو (أيار) 2008، أن قضية النهوض بالتعليم تأتي أولا، تليها قضية تطوير الرعاية الصحية، وثالثا تأتي قضية زيادة الرواتب والحد من ارتفاع الأسعار، ورابعا قضية إسقاط القروض، وقضايا أخرى مشابهة.

يتبين من هذا أن مطالب الكويتيين الأساسية لم تكن هي – في الغالب - الشعارات السياسية التي يرفعها النواب والمؤدلجون. هذا في الكويت أما في السعودية فالمطالب معيشية وخدمية، مثل مشكلة الإسكان الحادة وغلاء الوحدات السكنية، وتزايد الشح في الفرص الوظيفية وغلاء بعض السلع الغذائية أو مشكلة سيول جدة، ومكافحة الفساد ومحاسبة الفاسد. ربما كان هذا محبطا للبعض منا، لكن هذه هي الحقيقة.. هل هذا يعني أنه شعب مغيب أو ليس لديه وعي؟ أبدا، بل هو دليل على وعي «براغماتي» خطير، ربما هم يعرفون أن الإصلاح السياسي لا يأتي تحت ضغط اللحظة والسرعة المخيفة، بل عبر إعداد وئيد ومتدرج للانتقال إلى هذه المراحل المتقدمة. أقول: ربما.

مهما كان الرأي، ومهما كانت الأحلام، لكن هذا هو واقع الحال، ويجب رؤيته كما هو لا كما يتوهم البعض منا.

يظل سؤال ملح: لماذا هرع بعض النخب في السعودية، مؤخرا، إلى التوقيع على البيانات السياسية ذات المطالب الحادة، على الرغم من أن هذا السلوك ليس من طبعهم أو أنهم عدلوا عنه منذ زمن؟

لا ندري، لكن ربما دوخة اللحظة، وضباب الرؤية، جعلا البعض يتخلى حتى عن بعض مواقفه السابقة في التحفظ على التوقيع على البيانات السياسية الجماعية، مثل الداعية السعودي سلمان العودة، الذي وقع أحد هذه البيانات الأخيرة على الرغم من أنه قال قبل نحو سنة مفسرا لماذا عدل عن توقيع البيانات السياسية، بالنص: «كنت إلى وقت قريب أوقع على بعض البيانات التي أوافق عليها، ثم رأيت أن البيانات غالبا تكتب بصيغة توافقية، ولا تعبر عن الشخص بذاته، فعدلت عنها، وصرت أكتب بنفسي ما يعبر عن ذاتي من دون أن أشارك الآخرين أو يشاركوني في الورقة ذاتها». (من حوار أجراه معه المؤلف تركي الدخيل في كتابه «سلمان العودة.. من السجن إلى التنوير»، والحوار أجري بتاريخ 10 يونيو/ حزيران 2010).

باختصار: الناس في السعودية تريد كغيرها من الشعوب كرامة العيش، وهي كغيرها من الشعوب أيضا قابلة للتطور في الرؤية للحياة والسياسة، لكنها برهنت في الأيام الأخيرة على وعي - نادر هذه الأيام في العالم العربي - بمسألة الاستقرار والتمسك بالدولة والوحدة الوطنية؛ لذلك لم يعد أصحاب يوم حنين إلا بخفي حنين!

[email protected]